د. عبدالإله بلقزيز

مر على لبنان حين من الدهر كان فيه مجتمع الشمل (لا أقول موحداً)، حدث ذلك غب الاستقلال في العام 1943 والى نصف الخمسينات الثاني، ثم حدث في الحقبة الشهابية الستينية، وتكرر شيء منه غداة توقيع ldquo;اتفاق الطائفrdquo; ووقف الحرب الأهلية في خواتيم الثمانينات، والباقي نزاع وانقسام وتجابه وتراشق بالكلام أو بالحسام. من يعد زمن التفاهم والوئام والوفاق بين اللبنانيين لن يكون من تعدادها زمن جيل. ومعنى ذلك ان كل جيل من أجيال لبنان الثلاثة منذ ميلاد الكيان في العام 1920 حتى اليوم لم يقيض له أن يقضي زمنه من دون أن يعاين كياناً يتمزق وحياة تتلبد بالمصائب ووفاقاً سياسياً يترنح تحت ضربات من صنعوه من السياسيين ووضعوا له القواعد والضوابط.

ما كان ذنب اللبنانيين أنهم منقسمون في الدين بين محمديين ويسوعيين، وأن الأولين مثل الأخيرين أشياع وأبعاض يأخذها اعتصابها للمذهب والطريقة عن ملاحظة الجامع والمشترك، ذلك أن مجتمعاً من مجتمعات البشرية ليس يعرى عن لوثة الانقسام الى ملل ونحل وعصبيات، وليس يشذ عن هذه القاعدة في تكوين الاجتماع الانساني. ذنبهم إن كان لا بد أن يكون لهم من ذنب انهم ارتضوا أن يخرج منهم من يشيد علاقات السياسة في مجتمعهم على روابط العصبية الأهلية فيحول اجتماعهم السياسي الى جحيم.

ذلك واحد من ذنوبهم. الثاني ان سواداً من جمهورهم ما كان يضيره في شيء أن يزيد على رضاه بما فعل السياسيون فيه بممالأة السياسيين أولاء ومشاطرتهم ما هم فيه من أمر تفصيل السياسة والكيان على مقاس العصبيات الصغرى، فكان لا يتورع في تقديم السخرة (الأهلية) لمن يأخذوه بالسياسة الى حتفه محمولاً على يوتوبيات يتماهى فيها ldquo;العقديrdquo; بالكياني ويتداخلان ldquo;تداخل أنياب الكلبrdquo; على حد وصف ماوتسي تونج للمصالح الامبريالية! ولعمري ان في ذلك لمصاب جلل، لأن من يؤسسون السياسة على العصبية لا تروج لهم بضاعة إلا بوجود من يشتريها ويستهلكها ويعيد بذلك انتاج شروط دورتها من جديد! ولقد كان الجمهور ذاك المبتاع والمستهلك والمجدد للدورة والبضاعة: أحياناً بموالاته، وأحياناً بصوته (الانتخابي)، وفي أحايين أخرى بدمه.

ولأن المناسبة ليست مناسبة أخذ اللبنانيين بما فعلوا في أنفسهم بمبايعة من يبيعون مصائرهم على مذبح مصالحهم من ldquo;السياسيينrdquo;، لأن من غفل عن مصلحته وان عد مغفلاً ليس صانعاً غفلته ولا مسؤولا عنها وإنما استغفله من امتهن فعل الاستغفال (بحسبانه أبداً تقنية من تقنيات السياسة)، فإن ldquo;التماس ظروف التخفيفrdquo; في الحكم بلغة أهل القانون ضروري هنا: ليس لتبرئة ذمة الجمهور مما اقترفته ldquo;النخبةrdquo; (السياسية، الطائفية..) باسمه وبمشاركته، وإنما من باب توزيع المسؤوليات توزيعاً عادلاً بين الفاعل والمفعول به، بين الجاني والضحية، بين المحتال والمغرر به.. الخ، فلا يؤخذ الثاني بجريرة الأول.

إن الشعب، أي شعب، ليس معطى تاريخياً وسياسياً واجتماعياً قبلياً وجاهزاً. إنه ليس الناس أو الجمهور أو عباد الله.

إنه ldquo;علاقةrdquo; في المقام الأول، أو قل علاقة سياسية يتحدد بها الأفراد أو يعاد تحديدهم بها على نحو يكفون فيه عن أن يكونوا محض أفراد ليلتئم جمعهم في بنية اجتماعية جامعة تصنع روابط جديدة لهم تتخطى فردياتهم وولاءاتهم الانقسامية Segmentaristes العصبوية. الشعب هو الجماعة الوطنية لا العصبية وrdquo;الماهياتrdquo; الصغرى البدائية قبل الوطنية (القبيلة، العشيرة، العائلة، الطائفة، المذهب..). الشعب هو الدولة العصرية القائمة على مبدأ المواطنة حيث لا مكان للتمايز بسبب المعتقد والمذهب والجنس، ولا اصطفاء لفئة دون أخرى ولا تفاضل في الحقوق والامتيازات بمقتضى المنبت والمشرب إلا ما اقتضته الكفاءة.. والكفاءة فحسب. لا يكفي أن يقال ان شعباً ما يتمتع بالحريات التي لا يتمتع بها غيره وهذا حسبه كي يباهي بنفسه الخلق يوم القيامة. فقد تكون الحريات تلك جزءاً من ريع سياسي تستحصله العصبيات قبل الوطنية (ودون الوطنية) ثمناً لعدم قيام وطن يوزع الحريات بوصفها حقوقاً محقوقة للمواطنة دون تفاضل في الحصص والأقساط بين من يجمعهم الانتماء الى وطن، أو بين من يجمعهم التحرر مما يمنعهم من الانتماء الى وطن (ملاحظة: الوطن هنا بمعنى حديث لا صلة له ولا شبهة صلة بالموطن: المكان الجغرافي، فهو المكان السياسي).

يباهي السياسيون اللبنانيون غيرهم، في بلاد العرب والعجم، بأنهم مسكونون بأيديولوجيات الحداثة السياسية والتحديث الاجتماعي الاقتصادي وبقيم التقدم والمساواة. وليس لي ولا لغيري غير ان يعترف بشطارتهم المذهلة في ترويج هذه الصورة عنهم في العالم الخارجي. وكل من يزور لبنان، أو يعيش بعضاً من الوقت في بيروت، لا شك واجد نفسه مأخوذاً بrdquo;سحرrdquo; وبجاذبية تلك ldquo;الحداثةrdquo; وخطابها. أما إن كان من المتعلمة بحيث قرأ لشيخ المحدثين أحمد فارس الشدياق أو للمعلم الأكبر بطرس البستاني، أو اهتدى الى نصوص شبلي الشميل وفرح أنطون، وشغفت نفسه بنصوص جبران خليل جبران، ومسته ارتعاشة الروح وهو يصغي الى صوت السيدة فيروز وموسيقا عاصي الرحباني..، فقد يخال ان سياسيي لبنان المعاصرين حفدة لأولئك الكبار وورثة طبيعيون وشرعيون لميراثهم العظيم.

تقترب أكثر، فتتبين الصورة أكثر: خطاب تقليدي في رداء حداثي أو قل مصفحاً بالحداثة! تفجؤك وتفجعك حقائق تلك ldquo;الحداثةrdquo;: الطائفة أولاً، والمذهب ثانياً (وقد يكون العكس صحيحاً)، والمنطقة ثالثاً.. والوطن عاشراً. أما الدولة، فقرينة على ldquo;مؤسسةrdquo; استثمارية أشبه ما تكون بشركة مساهمة يقع التنازع على عدد الأسهم فيها! لذلك ما قيض الاستقرار للبنان منذ مائة وستين عاماً. كلما طوى أهله محنة ألمت بهم فيمموا شطر السلام والاستقرار، أتاهم من بين أصلابهم من يهمس في آذانهم ان المعركة لم تنته، وان لا مندوحة من جولة أخرى من المنازعة تأخذ باليسرى ما فقدته الأنا باليمنى. وغالباً ما ينجح ldquo;الوسواس الخناسrdquo; في ان ldquo;يوسوس في صدور الناسrdquo; فيحملهم على تعبية النفس والنفرة للمدافعة والمغالبة! والنتيجة موت لا ينتهي إلا ليبدأ موت متجدد.

ليس الوطن مشروعاً مستحيلاً في لبنان، وليست المواطنة نعتاً استعارياً لمنعوت دائم (الرعية)، وليست الوحدة الوطنية والإجماع معادلة حسابية تلفيقية للجمع بين ما لا يجمع من الملل والنحل والأهواء. ذلك كله ممكن متى تخلى السياسيون عن عادتهم في صلب لبنان الكيان على مذبح مصالحهم الصغرى، ومتى أدرك اللبنانيون ان الطائفية داء قاتل للكينونة: داء فقدان المناعة الوطنية المكتسبة.