أنيس منصور

دليل الأسى نار على القلب تلفح..

ودمع على الخدين يهمي ويسفح

إذا كتم المشغوف سر ضلوعه..

فان دموع العين تبدي وتفضح

إذا ما جفون العين سالت شئونها..

ففي القلب داء للغرام مبرح

هذه أبيات ابن حزم الاندلسي الذي عاش في القرن العاشر، ولكن أبياته هذه وغيرها عاشت عشرة قرون أخرى، بل إن المستشرق الألماني بولك ينشر إحصائية تبين أن اسم ابن حزم قد تردد في اكثر من ستة آلاف كتاب كلها تتحدث عن الحب والغرام. ومن الغريب أن ابن حزم هذا من رجال الدين ومن العلماء.. ولكن لم يكد يكتشف المستشرق بتروف سنة 1924 كتابا نادرا لابن حزم اسمه laquo;طوق الحمامةraquo; حتى تحول ابن حزم الى إمام للعشاق والمحبين في العصور الوسطى في أوروبا والعصر الحديث.. ففي هذا الكتاب قد تحدث عن اسرار الحب والود والغرام والعشق.. وانواع النساء والهجر والصد.. وفن الرسائل.. وملامح المرأة وملاحتها أيضا.. وأحبهن إليه.. وابن حزم يستنكر نظرية الحب من أول نظرة.. وفي ذلك يقول: laquo;وإني لأطيل العجب من كل من يدعي انه يحب من نظرة واحدة.. ولا أكاد اصدقه ولا أجعل حبه الا ضربا من الشهوة.. وما لصق بأحشائي حب إلا مع الزمن الطويل.. وبعد ملازمة الشخص له دهرا، وأخذني معه في كل جد وهزلraquo;.. ولكن كيف يكون هذا حال رجل كان إماما للدين ثم إماما للدنيا ايضا؟!

ان ابن حزم الاندلسي قد وضع اصبعه على مشكلة العصر كله.. عصره وعصرنا أيضا.. فقد كانت المرأة هي التي تعلم الأطفال.. تعلمهم القرآن والحديث والشعر والخط. ومن الطبيعي أن يبدي الطفل اهتمامه بالمرأة في سن مبكرة فإذا أصبح شابا رأى اهتمام الكبار بالشعر والغزل والمغامرات .. ورأى عددا كبيرا من النساء في بيته وفي بيت غيره من الكبراء والأثرياء.. وكان ابن حزم واحدا منهم.. وهي نفس قضية العصر.. فكل الصحف والمجلات والمسارح تعرض قصص الجنس، وأغاني الجنس ورقص الجنس.. فكل شيء يشعل النار في أجسام الأطفال والشبان.. ويندهش الكثير من الآباء والمصلحين والمربين لهذه الفورة الجنسية عند الجميع.. مع ان الذي يبعث على الدهشة ألا يكون شيء من ذلك؟! وابن حزم لا يترك جيله وهذه الأجيال دون نصيحة، فيقول: ان العلم يضيء ولا يحرق.. ولكن الجهل يقتل ويحرق.. فلا خوف من العلم أو معه؟!

وهذه العبارة صادقة وحسنة النية.. وهي وحدها التي تؤكد ان ابن حزم فعلا كان يعيش في القرن العاشر، ولا يعرف ماذا أصاب الناس في القرن الواحد والعشرين. وكيف اختلطت في عقولهم وقلوبهم ومعداتهم وأحلامهم كل المعاني: فهم يتحدثون عن الكراهية بمنتهى الحب، وعن الموت بمنتهى الحيوية!