29 يناير 2007


خيري منصور

كانت الصحف العربية فيما مضى تخصص زاوية يومية تحت عنوان ldquo;أين تذهب هذا المساء؟rdquo;.

ولم يكن عدد دور السينما والمقاهي والأندية يقارن بعددها الآن، حيث هناك مدن يقع فيها المقهى بين مقهيين والنادي بين ناديين، ولم تكن التقنية قد لونت الشاشات على هذا النحو الكرنفالي المثير والخاطف للأبصار الذي نراه في هذه الأيام.

لكن الناس لا يبحثون عمن يرشدهم الى حيث يذهبون هذا المساء وكل مساء، ما دام التلفزيون قد تحول الى صندوق عجب، واكتشاف سحري يدخل لهم القارات كلها الى غرف النوم ويتنقلون بين مختلف عواصم العالم لمجرد الضغط على الريموت كونترول.

لهذا تستحق أمسياتنا زاوية مضادة لتلك التي شهدتها صحف الستينات والسبعينات من القرن الماضي، والعنوان المقترح لهذه الزاوية هو ldquo;أين لا تذهب هذا المساء؟rdquo;.

لا تذهب الى السوق لأنه يعج بالأقدام العمياء التي تبحث عن متنفس للضجر ورتابة الأيام المتكررة، ولا تذهب الى السينما كي لا تعود مكتئباً أو مصاباً بالزكام، ولا تذهب الى المقهى كي لا تثقب طبلة أذنك أصوات تشبه رؤوس الأنصال المدببة، وتعتمد على الفيديو كليب كي يشفع لها عن طريق العينين.

ولا تذهب الى حيث كان يذهب والداك لأن الأماكن القديمة تحولت الى أطلال، أو شيد على جذورها ما لا تقوى عيناك على إبصاره ولا يقوى دماغك على فهمه.

صحيح، ان الدنيا تغيرت، وأن لكل زمان دولة ورجالا، لكن هذا الانقلاب الكوني أفرط في مسخ الاشياء والكائنات، وأصبحت مخلوقات سلفادور دالي وبيكاسو العجيبة كائنات من لحم ودم وتسعى في الاسواق، لقد تقدم الإنسان كثيرا بمقياس ما، لكنه تقهقر بعدة مقاييس أخرى، وتحول جسده الى غمد أو قمقم يخفيه، إذ هبط الى عالمه السفلي وحيداً، ومفعماً بالأسى لأنه جرب المفتاح في كل البيوت إلا بيته، ولأنه عرف واكتشف كل ما حوله إلا نفسه.

وهناك قصة قصيرة كتبها الأمريكي الأرمني سارويان بعنوان ldquo;حبة اسبرينrdquo; وهي بطلة القصة لا الإنسان، لأن الكائن المستوحش الوحيد في شقة في الطابق السبعين لا يجد في آخر الليل من ينادمه ويبثه شكواه غير حبة اسبرين.

ولو احتكمنا الى ما يكتب من أدب حديث باعتباره وثيقة فاضحة لظلمات الوجدان، لرأينا ان الإنسان الحديث ضل الطريق الى ذاته، وهو يتوهم بأنه اجترح معجزات وهو يتسكع عبر مركباته الفضائية بين الكواكب والمجرات.

ما جدوى ان تعرف كل شيء باستثناء الكائن الوحيد الذي تجب معرفته من الداخل وهو ذاتك المجهولة؟ وما جدوى أن يربح الإنسان المليارات ويخسر ذلك الجزء الجوهري والحميم من كينونته؟

لقد تغير العالم كما يقول اريك فروم بحيث لم يعد يتعرف إلى ملامحه أمام المرايا المحدبة، وأصبحت مقولة شكسبير الشهيرة أن تكون أو لا تكون تلك هي المسألة، أن تملك أو تكون تلك هي الكارثة.

فقد شحذ الاستهلاك المجنون أنانية الإنسان وحوله الى اسفنجة لها آلاف الأفواه التي لا تشبع.

أما المساء، فقد أصبح مجرد ذيل مقطوع للنهار، لا يمكن وصفه بالأصيل، لأن الشمس تغرب سراً فيه، ولم يعد لكلمة الغسق من معنى خارج القاموس والقصائد القديمة.