في حوار مع المفكر العربي: أين نحن في العالم؟ متى ينتهي الانحدار؟ أي دور للمثقف؟ ...
الخوف والرعب ينسفان حيوية المجتمع ولا ينتجان سوى الهزيمة النفسية



إبراهيم العريس - الحياة

بالحوار التالي مع الدكتور اسماعيل سراج الدين، الذي يدير من خلال مكتبة الاسكندرية في القاهرة، واحداً من اهم صروح الثقافة العربية، تستأنف laquo;الحياةraquo; نشر هذه الحوارات مع بعض أبرز المفكرين والمثقفين العرب المعاصرين، وهي حوارات كنا نشرنا عدداً منها خلال النصف الأول من العام الفائت، ثم أوقفناها قسراً جراء ظروف حرب تموز وما تلاها من أحداث في لبنان وبقية البلدان العربية، جعلت أي حوار حول العقل والمنطق يبدو ثانوي الأهمية!

المهم، يتناول هذا الحوار مع الدكتور سراج الدين بعض هموم وإشكاليات الواقع العربي الراهن. وهو واقع يرصده سراج الدين من خلال مواقع عالمية وعربية ومصرية شغلها على مدى العقود الثلاثة الأخيرة التي تلت تخرجه بدرجة الدكتوراه في جامعة هارفارد الأميركية حول موضوع laquo;دور التعليم في التنميةraquo;، والتي تنقل فيها بين عمله في البنك الدولي مستشاراً خاصاً ثم نائباً للرئيس، إضافة الى مهمات ومناصب اخرى، وعمله لدى الحكومة المصرية، وبينهما من تدريس في الجامعة الأميركية في القاهرة.

والمعروف ان الدكتور سراج الدين كان مرشحاً جدياً عربياً للأمانة العامة لليونسكو قبل أعوام، لكن ظروفاً عدة وتقاطعاً في الترشيح بين الدول العربية حال بينه وبين شغل ذلك المنصب، فكان البديل في رئاسته مكتبة الاسكندرية.

خلال العقد الأخير من السنوات أصدر سراج الدين كتباً ودراسات تناولت الكثير من الموضوعات العلمية والتنموية والاقتصادية والثقافية ومن بينها laquo;تعزيز التنميةraquo; و laquo;الاستدانة وثروات الأممraquo; (1996)، و laquo;شكسبير عصرياًraquo; (1998)، إضافة الى كتب ودراسات عدة شارك في إعدادها. وهو اليوم، إضافة الى رئاسته مكتبة الاسكندرية، يساهم، رئيساً وعضواً، في الكثير من اللجان الاستشارية الأكاديمية والحكومية مثل laquo;الأكاديمية المصرية للعلومraquo; و laquo;أكاديمية العالم الثالث للعلومraquo; و laquo;الأكاديمية القومية الهندية للعلوم الزراعيةraquo;.

واستطراداً للحوارات السابقة التي نشرتها laquo;الحياةraquo; في السياق نفسه، وأجريت مع د. سمير امين وجورج طرابيشي وبرهان غليون وتركي الحمد ومحمد الرميحي ووجيه كوثراني... بين آخرين، يتناول الحوار التالي، جملة من القضايا التي تطاول موقف الثقافة العربية مما يحدث عندنا ومن حولنا، والتساؤل عما اذا كان ثمة ما يمكنه، بعد، ان يلجم التدهور الذي تعيشه اوضاع العالم العربي في شكل عام، والمجتمعات العربية في شكل خاص، وعما اذا كان يمكن، بعد، الثقافة ان تلعب أي دور في هذا المجال، اضافة الى إضاءة موقف الفكر العربي، بصورة عامة، من العلاقة مع الآخر، هذه العلاقة التي يبدو من الواضح انها تشكل، وستشكل اكثر وأكثر، بؤرة الاهتمام والحراك السياسي وغير السياسي خلال المرحلة التالية، وحتى أمد غير منظور.

بعد فترة طويلة أمضيتها فى العمل الدولي فى الخارج، وبعدما رشحت لرئاسة يونيسكو، ها أنت على رأس واحد من ابرز صروح الثقافة والفكر فى العالم العربي، بل إن مكتبة الإسكندرية تتجاوز مهماتها لتغوص في ندوات وسجالات حول مسائل أساسية مثل الإصلاح والنظرة إلى المستقبل العربي. فأي صورة يمكن أن تنقلها إلينا من موقعك الراصد لهذا الواقع من خلال التاريخ، والمتطلع إلى المستقبل، نعني صورة الوضع الحالي للعالم العربي؟

- قد لا تعكس الصورة العربية الراهنة طموح العرب بمقدار ما تعكس تشككاً في قدرتهم على مستوى العمل الوطني. لقد نشأت في وقت كانت فيه الطموحات العربية كبيرة، والوطن العربي يتحرر، لذا ولد جيلي ولديه رؤية حالمة للمستقبل نفتقدها اليوم. الآن تراجعت القومية العربية، وأصبح العرب منقسمين مهمشين، ما ساعد على تشدد بعضهم إما لعصبية دينية أو قُطرية وغابت وحدة الكلمة والصف، وشُلّت حركة جامعة الدول العربية. لكن اتفاق العرب إذا توافرت لهم الإرادة على ذلك ليس صعباً، لأن المشترك بينهم أكثر بكثير مما بين غيرهم، عكس الواقع الأوروبي الذي يحمل عبر تاريخ طويل وإلى الآن نقاط افتراق شاسعة. ولنلاحظ أن الاوروبيين بدأوا مسيرتهم نحو التنسيق والتفاهم والوحدة بعد العرب بثلاث عشرة سنة، إذ إن اتفاق روما يعود الى عام 1958 بينما أُسِست الجامعة العربية عام 1945. لكن الأوروبيين كانوا واقعيين، إذ بدأوا من حيث الممكن تحقيقه في ارساء علاقات استراتيجية تقوم على المشاركة والمصالح المتبادلة بينهم، فانتقلوا من السوق المشتركة إلى عبور الحدود إلى التكافل الاجتماعي إلى العملة الموحدة، ثم شرعوا في الحديث عن دستور أوروبي، بينما بدأنا بأحلام عظيمة وخطا في بعض الأحيان أسرع من اللازم، فانهارت بسرعة قيامها.

الآن، الاتحاد الأوروبي أقرب ما يكون إلى الوحدة منا نحن العرب، وهذا يعكس حاجتنا إلى تكوين شراكة تبدأ من تبادل المصالح الاقتصادية حتى على مستوى الدول المتجاورة، لننتهي منها إلى تبادل المصالح وتأتي المسائل السياسية فى نهاية المطاف.

حرصت على أن يرد ما سبق في laquo;وثيقة الإسكندرية للإصلاح العربيraquo;، فعلى رغم اتجاه عدد كبير من المشاركين في أول مؤتمر عقد في المكتبة نحو السياسة بوصفها أكثر القضايا سخونة على الصعيد العربي، رأيت ضرورة أن تشتمل الوثيقة على محاور للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وفيها كان خطابنا موجهاً نحو المجتمع المدني، لأنه إذا تحرك وتبنى قضايا الإصلاح، يبني قاعدة حقيقية للعلاقات بين المجتمعات قبل الدول، وهي علاقات أقوى بكثير في حالة قياسها من العلاقات بين الدول. وحرصنا على إقامة شبكة عربية عبر الإنترنت، تتواصل من خلالها الجمعيات العاملة في خدمة المجتمع المدني، كي تكون هناك علاقات فاعلة بين العرب، بخاصة أنني أؤمن بأن الإصلاح الذي يبدأ من القاعدة أقوى وأكثر رسوخاً من الذي يخرج بقرار سياسي علوي، لأن الأول خرج من المجتمع معبراً عن آماله ورغباته والمجتمع يدافع عنه ويسعى الى تنفيذه وإقراره عن اقتناع كامل، والثاني يُنظر إليه على أنه هبة من الحاكم.


نحن والآخر

gt; بما أن المطروح بإلحاح في العالم العربي الآن مسألة علاقتنا بالآخر، وهو موضوع اشتغلتَ عليه طويلاً، السؤال: أين نحن من هذا الآخر الذي يمثله الغرب عموماً، وأين نحن من المواجهة الحضارية، وهل صارت قدراً لا يمكن السير قدماً من دونه؟

- لعل موقعي كنائب سابق لرئيس البنك الدولي ثم مدير لمكتبة الإسكندرية التي حدد ضمن أهدافها أن تكون ساحة للحوار الحضاري، أتاح لي فرصة للنظر فى طبيعة علاقتنا بالآخر كما نعرّفه في أدبياتنا. لكنني أدعوك إلى النظر بعين الغرب الذي لديه مصالح اقتصادية وسياسية يدافع عنها، وإلى واقعنا في التعامل معها وفق مصالحنا فى العالم العربي، ثم أدعوك الى التأمل في تضارب المصالح بين الدول الغربية، وكيفية إدارة هذه الدول حواراً بينها للوصول إلى توافق حول قضية مطروحة. الدول قادرة على أن تختلف في ميدان وتتعاون في آخر. فرنسا مثلاً قادت الموقف الدولي ضد حرب العراق قبل الغزو الأميركي لكنها كانت في الوقت نفسه حليفة أميركا داخل حلف الاطلسي. يمكننا اذاً أن نأخذ موقفاً قوياً في قضية ما ونتعاون في قضية أخرى، ما دامت هذه هي مصلحة بلدي. المهم في هذه الحوارات والمفاوضات معرفة مصلحتنا وتفهمنا لواقع الآخر ومصالحه. إن هذا التفهم من الطرفين هو الغرض من الحوار المفتوح، الحوار مع الآخر. فلنتحدث مثلاً عن قضية مثل الإرهاب. حتى داخل الولايات المتحدة، يوجد في اوساط الشعب الأميركي من يمارس الإرهاب والتطرف وينادي بآراء عنصرية. المشكلة الحقيقية أننا في حوارنا مع الآخر نتعامل من دون دراية كاملة به وبمتناقضاته، وأن مجتمعاته كمجتمعنا تحمل في داخلها كوامن الإرهاب والعنصرية والتطرف، واستخدامنا لأمثلة من داخل المجتمع الغربي في حوارنا معه يبيّن حجم المشاكل ويضعف من يريد التحامل علينا. وفي الحوارات التي خضتها مع هذا المجتمع في محافل علمية وشعبية، دهشوا حين سردت لهم تناقضاتهم، لأن العرض النقدي يبيّن دولية المشاكل وعالميتها، ويفسح عن أرض مشتركة للحوار.

عبر جولات من الحوار في لجنة تحالف الحضارات التي شكلها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان وأتشرف بعضويتها مع عدد من الشخصيات الدولية، نكاد أن نجمع على غياب تصور حقيقي للعالم الإسلامي في الغرب، لذا سعيت الى إقامة شراكة مع مؤسسة كارنيجي في الولايات المتحدة، لترجمة مجموعات مختارة من روائع الفكر الإسلامي إلى الإنكليزية، ليتعرف العالم الى الثقافة الإسلامية من منابعها الحقيقية، بلغة يقرأ بها العالم كله. وفتحت صوراً للحوار مع الغرب عبر مكتبة الإسكندرية، فاستضافت المكتبة مفكرين غربيين بهدف التعرف الى فكرهم ومحاورتهم. علينا أن نسعى الى إيجاد شركاء لنا في الغرب مؤثرين يدافعون عن مصالحنا، لكن هذا يحتاج أن نحسّن أداءنا في واقعنا، وأن نعمل بكثب وبمنهج النفَس الطويل لبناء جسور التفاهم وأرضية التعاون. وهذا يذكّرني بحادث: بعد هزيمة 1967 جمعنا ديبلوماسي مصري حين كنت لا أزال طالباً في جامعة هارفارد وطلب مناقشتنا حول كيفية صنع لوبي مساند لقضايا العرب في الولايات المتحدة، فذكرت له أنه يجب أن نبحث عن الوجوه السياسية الصاعدة وندعوها الى زيارة بلادنا ونكسبها كأصدقاء ونساندها بقوة، وهذا مخطط قد يستغرق تنفيذه عشرين سنة، فرد عليَّ غاضباً: laquo;أنا أريد أصدقاء خلال سنة أو اثنتينraquo;. مشكلتنا أننا ننظر تحت أقدامنا ولا ننظر الى المستقبل، ولا نفتح حوارات صريحة حول قضايانا الداخلية. هذا ما حرصت عليه منذ توليت إدارة مكتبة الإسكندرية، فأسست laquo;منتدى للحوارraquo; أدار حوارات حول العديد من القضايا المصرية، حتى صار لهذا المنتدى جمهور تعوّد احترام قواعد الحوار والرأي والرأي الآخر. كما أسست laquo;منتدى الإصلاح العربيraquo; الذي عقد ثلاثة مؤتمرات سنوية، فضلاً عن عدد من النشاطات طوال السنة، وصارت قضايا حقوق الإنسان والشفافية والمجتمع المدني ومشاكله والبيئة والتكامل الاقتصادي، وتناقَش في شكل مفتوح من مفكرين وساسة ومثقفين عرب في مكتبة الإسكندرية. ثم يجيء الحوار مع الآخر، إذ عقدنا مؤتمراً عربياً بمشاركة أوروبية موسعة. لمناقشة حرية التعبير واختلاف المفاهيم حولها بين العرب والآخر.

أستطيع الآن أن ألخص الأمر في النقاط الآتية:

- هناك صراع مصالح بين الدول تفرضه توازنات سياسية واقتصادية وعسكرية.

- هناك جدال حول أساليب الحوار وسوء الفهم بين حضارات مختلفة، وصور مغيبة عن الحقيقة هنا وهناك.

- هناك حاجة ماسة لحوار عربي - عربي وكذلك لحوار إسلامي - إسلامي للاتفاق على المفاهيم وعلى تشخيص الواقع ورؤى المستقبل، والتفكير معاً في إستراتيجية جديدة ومن ثم لتوضيح رؤانا وتفهم قضايانا، وتحديد مصالحنا.

- هناك حاجة لتفهم هذا الآخر.

- هناك جسور يجب أن تقام لدى الآخر كي نكسب من خلالها أرضية مشتركة معه، تخدم مصالحنا القومية.


الشموليون لا يتقدمون

gt; بعد هزيمة 1967، كانت هناك نهضة فكرية نهلت من الحداثة ومن الوجوه المضيئة في التراث، علاماتها كتب ودراسات شخّصت غضب الفكر العربي على الهزيمة ورغبته في تجاوزها. فهل تعتقد بأن تلك الانتفاضة النهضوية أثّرت؟

- أحدثت هزيمة 1967 هزة عنيفة فى الوطن العربي وللمشروع القومي العربي، لكن النظام الشمولي أو الذي تغيب فيه حرية النقد والتعبير لا يمكن أن يتقدم في صورة مستمرة. عبئت الجهود والإمكانات عقب هزيمة 1967 لتحقيق النصر، لكنها لم تُعبأ لمصلحة بناء مجتمع يؤمن بالتعددية والديموقراطية والمصارحة والشفافية. في الولايات المتحدة حيث كنت أعيش، كتبت مع مجموعة من ناشطي الحركة الطالبية خطاباً مفتوحاً للرئيس جمال عبدالناصر يطالبه بإصلاحات داخلية، خاف الجميع من التوقيع عليه ووقعتُ انا منفرداً، فهل ترى هذا الخوف يولد حيوية لدى المجتمع؟ الخوف والرعب لا يولدان سوى الهزيمة النفسية، وفي الولايات المتحدة حيث نشطت تجمعات العرب بعد هزيمة 1967 كنت أرى تناقضاتهم، فحينما كانت تطرح قضية للنقاش، كان الجواب إما أن تكون مع وإما ضد، أما أن تحلل أو تنقد أو تعدل فلم يكن مقبولاً. إن هذه الثقافة ما زالت مستمرة، نعم كانت هناك بعد هزيمة 1967 أطروحات فكرية ولكن لم تؤت ثمارها بعد. نحن في حاجة الى نوع من المصارحة مع النفس، وأن نعود إلى تراثنا الذي قبل المنهج العلمي: أبو العلاء المعري قبلوه على تناقضاته وقدرته لغوياً وأدبياً وإن تحفظوا عن بعض كتابته التي أشارت إلى زندقته، ولم يُحلَّل دمه ولم تمنع كتاباته لأن هذا المجتمع كان يؤمن بحرية الإبداع. كان مجتمعاً يثق في نفسه وفي ذاته. كان لابن الهيثم تمرده على النص الأوسطي الموروث ومطالبته بالتجديد والانصياع للعقلانية وللحجة، وقبل المجتمع هذا وذلكم هو تراثنا الحقيقي.

gt; اليوم يرى كثيرون أن المثقفين صامتون، خانوا أو دُجِنوا.... أو ابتعدوا مشمئزين، بينما لجأ بعضهم إلى مهادنة أنظمة وتيارات قومية متأزمة أو أصوليات. فماذا تقول، ما هي صورة الساحة الفكرية العربية الراهنة؟

- أرى عكس ما ترى. فالحركة الثقافية مثل السياسة، هناك من يذهب مع هذا الرأي أو ذاك، وتنوع مشارب المثقفين واتجاهاتهم أمر محمود، وميل بعضهم الى السلطة ومعارضة بعضهم أمر بديهي، ولكن يظل المثقف هو العين التي يرى من خلالها المجتمع ذاته. فوظيفته هي تحليل الظواهر ومناقشة التراث وتلقيح الأفكار في صورة عصرية ونقل تجربة الآخر الإبداعية وتشكيلها في صورة محلية، وإعادة صوغ فكر المجتمع وتوجهاته، لا تقبل الوضع الراهن أياً يكن. لذا يجب أن يكون المثقف ناقداً لما حوله، متطلعاً الى الأفضل، مطالباً به. وحتى من مال الى السلطة الحاكمة، يطالب بالتغيير لأن سياسات الماضي مهما كانت ناجحة ليست بالضرورة هي الأنسب لمواجهة تحديات المستقبل التي تختلف عن تحديات الماضي. لذا، للمثقف وظيفة أساسية في المجتمع، من هنا تجيء أمانته. الساحة الثقافية العربية حالياً تعج بالمثقفين، لكن المشكلة أنه وسط هذا الزحام هناك الغث والثمين، وفي كثير من الأحيان يضيع الثمين وسط لهاث الغث الرائج في وسائل الإعلام. من هنا يأتي دور الإعلام فى اكتشاف المثقفين الشباب، وهو دور أراه في الوطن العربي يعاني الآن قصوراً شديداً، فما زلنا نلهث وراء أسماء محددة من دون التنقيب والتفتيش عن وجوه جديدة.

أدركتُ هذه المشكلة بوضوح حين توليت إدارة مكتبة الإسكندرية، فحين تُعرض عليَّ أسماء الحضور لمؤتمر ما، أجد معدلات سن المثقفين مرتفعة، ولا وجود لجيل الوسط أو الشباب، كما أن الأسماء تتكرر هنا وهناك من دون دفع لدماء جديدة. لذا أحرص على الدفع بأجيال جديدة في كل حدث يقام في مكتبة الإسكندرية، كي يكون هناك تواصل أجيال لدينا، وتجدد في الأفكار. فالشباب هو الذي يستطيع أن يعطي حراكاً للجمود الفكري والثقافي العربي، ويدفع هذه المجتمعات إلى الحيوية. تذكر أنه حين برز على الساحة الثقافية طه حسين والعقاد والمازني وأحمد رامي وعبدالرحمن بدوي وغيرهم، بدأوا يبرزون بأفكارهم وهم دون الأربعين، وصاروا عمالقة الفكر والثقافة العربية بعد ذلك. لذا، فاكتشاف جيل جديد مماثل من الشباب هو وظيفتي الأساسية حالياً، كي نكسر حالاً من الركود الفكري العربي.


تجارب مضيئة

gt; هناك مفكرون عرب وصلوا إلى مواقع قرار في بلدانهم، أو على صعيد مؤسسات عالمية، فهل ترى أنهم وصلوا بأفكارهم أم من دونها؟

- هناك العديد من المثقفين العرب وصلوا إلى مناصب قيادية. على المستوى الدولي، محمد البرادعي والدكتور بطرس غالي والمرحوم إبراهيم شحاتة، وعلماء مثل أحمد زويل وفاروق الباز، وعلى المستوى العربي أذكر عبداللطيف الحمد في الكويت، وثريا عبيد في الأمم المتحدة والمنجى بوسنينة في الألكسو وغيرهم كثيرين، وأرى أن جلّهم يعطي بمقدار ما أتيح له من إمكانات. ان وصولهم جاء لمكانتهم وجهودهم السابقة على ارتقائهم مواقعهم، لكننا في حاجة إلى أن يدوّن هؤلاء تجاربهم بسلبياتها وإيجابياتها، كي يستفيد منها الآتون الى هذه المناصب. فالتجربة تقدم خلاصة فكر الانسان، بخاصة أن تولي مثقف أو مفكر منصباً ما قد يحمل معه طموحات ورؤى يمكن تنفيذها ويمكن أن يتعثر المرء في تنفيذها. وتقويم التجربة من جانب صاحبها، يعطي خبرة متراكمة للآتين بعده، كما فعل الدكتور بطرس غالي حين قدم تجربته فى الأمم المتحدة، لكننا في الوطن العربي لم نتعوّد نقد الذات. أنا أستعد الآن لأقدم رؤيتي لتجربتي في سنوات الدراسة، وتجربتي في الحركة الطالبية في جامعة هارفارد، ثم في البنك الدولي. سأنقد نفسي وسأحاول أن أنقل تجربتي للآخرين، لكنني آمل بأن يقدم الآخرون تجربتهم.

gt; في رأيك من يصنع الذهنيات العربية حالياً، وأي ذهنيات تُصنع على هذا النحو؟

- هناك التيارات الإسلامية بأفكارها التقليدية، وأرى التيار القومي العربي الذي صار في حال وهن، كما أن اليسار بتياراته المختلفة، في أزمة فكرية لم يخرج منها بعد، منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وهناك من لهم ميول نحو الفكر الليبرالي وهم أقل وجوداً وتأثيراً في الوطن العربي. وسط هذه التيارات، هناك تيارات وطنية محلية، وفي كل الأحوال نحن في حاجة إلى مزيد من حرية التفكير، وإلى طرح رؤى عربية فكرية عصرية تصوغ للمواطن العربي مستقبله في صورة تطور الموروث الثقافي وتلحق بتيارات الحداثة المعاصرة، وإلا سنرى أنفسنا خارج التاريخ.

gt; هل يمكن الحديث عن وحدة ثقافة أو فكر عربية، أم أن ثمة laquo;تطوراً غير متكافئraquo; بين منطقة وأخرى، كما يقول بعضهم، بل حتى بين فئات داخل كل منطقة، يجعل الوصول إلى نقاط تلاقٍ مستحيلاً؟

- الحديث عن وحدة الفكر العربي، غير واقعي. يوجد فكر عربي متعدد الأوجه، والقوة، وذلك من أوجه الثراء، ولا فكر عربياً واحداً. طبيعي أن تختلف الرؤى الثقافية العربية بين منطقة وأخرى لاختلاف البيئة والموروث الثقافي، ونستطيع نسبياً أن نتحدث عن تشابه في سياق الفكر العربي في دول الخليج، يماثله تشابه في دول المغرب العربي، بينما تقف مصر بين الكتل الثقافية العربية بخصوصيتها وتواصلها. ولا أستطيع القول إن مجموعة ما في مكان ما تحتكر الفكر العربي، بل نجد أطروحات لمحمد عابد الجابري وغيره في المغرب تستحق الاهتمام، ولدى رضوان السيد في لبنان رؤى فكرية يمكن أن نتوقف عندها، وكذلك محمد جابر الأنصاري في البحرين. بين هؤلاء تنوع فكري ndash; وثقافي، وهم يلتقون عند الرغبة في تحقيق نهضة عربية فكرية، والتنوع في كل الأحوال ظاهرة صحية لأنه يولد دائماً أفكاراً جديدة.إن تعدد الرؤى والاتجاهات إذا أثمر حواراً حقيقياً بين أصحابها، يجعل الساحة الثقافية العربية بوتقة لتفعيل الفكر وتطوير المجتمع ، وإدخال البعد النقدي في حياتنا وفتح الأبواب على مصراعيها لجيل الشباب الواعد الذي سيصبح مستقبلاً زاهراً لأمتنا.

gt; إذا كان تشخيصك للواقع تفاؤلياً، هل لك أن تحدد دوافع هذا التفاؤل، وإذا كان متشائماً قل لنا لماذا.

- أنا بطبعي متفائل، فلا مجال للتشاؤم في حياتي. أعرف أن الواقع العربي صعب ومحبِط في بعض الأحيان، لكن تجاربي تثبت ان الأمل يأتي دائماً بدفع الشباب إلى موقع المسؤولية، مع خبرة الكبار في التوجيه أحياناً. فالبناء المؤسسي الذي بدأته في مكتبة الإسكندرية، قررت فيه منذ البداية إلغاء النمط الوظيفي المستديم، والاعتماد على النمط التعاقدي، لذلك رفضنا منهج laquo;الأقدميةraquo; وأخذنا بمنهج الانجاز والكفاءة في الأداء، واعتمدت في الغالبية العظمى على شباب دون الأربعين، بل قد تندهش اذا عرفتَ أن بعض القيادات في المكتبة دون سن الثلاثين. هؤلاء قادوا المكتبة إلى أن تصبح عضواً في الاتحاد الدولي للمكتبات الرقمية، كما ساهموا في تقديم صورة دولية مشرقة لمؤسسة مصرية عربية عصرية، حتى صار العديد من المؤسسات الدولية يسعى الى شراكات مع مكتبة الإسكندرية التي اكتسبت صدقية عالية في فترة وجيزة. لذا رؤيتي للواقع العربي تفاؤلية، لأننا إذا دفعنا شبابه نحو تحمل المسؤولية ستغير هذا الواقع في صورة جذرية. كما أن القواسم المشتركة الكثيرة بين العرب عامل أساسي سيساعد، في حال أخذ المصالح العربية المشتركة بجدية في بناء واقع عربي جديد. وأقول دائماً ان ما أنجزته كوريا وسنغافورة والصين وماليزيا، يمكن أن تحققه مصر والأردن وتونس والمغرب. العرب ليسوا أقل من أهل شرق آسيا في شيء، ونحن قادرون على تحقيق ما حققوه.

gt; هل هناك دور ملموس لمكتبة الإسكندرية في الحوار مع الآخر؟

- ما بذلته المكتبة من مجهود، جعل الاتحاد الأوروبي يفضل اختيارها دون المؤسسات الأوروبية كمقر لمؤسسة أناليند للحوار الأورومتوسطي، وهي أول مؤسسة أوروبية خارج أوروبا، نشأت كثمرة لإعلان برشلونة لتضييق الفجوة بين الشعوب والمنظمات على شاطئ المتوسط، وتطوير الشراكات في العلاقات الاجتماعية والثقافية والإنسانية، وتنمية الموارد البشرية ودعم التفاهم والتبادل بين المجتمعات المدنية. نحن في مكتبة الإسكندرية، أسسنا مركزاً لدراسات الإسكندرية والبحر المتوسط، له دور جيد في التفاعل مع المؤسسات الأوروبية. كما يحيي المركز الإسكندرية بوصفها مدينة متعددة الثقافات. وأقمنا منتدى الإصلاح العربي، ونستقبل مركزاً لدراسات السلام. كل هذه أمثلة من الانفتاح على الآخر.