عزمي عاشور

ترتبط خبرة المجتمع المصري مع قضايا الإصلاح بشكل كبير بالمبادرات التي تقوم بها الدولة أكثر من ارتباطها بمبادرات تأتي من المجتمع، وذلك لأسباب مرتبطة بطبيعة الدولة نفسها ومركزيتها وهامشية القوى السياسية في المجتمع. فعمليات الانفتاح الاقتصادي في السبعينات من القرن الماضي كانت بمبادرة من الدولة وأيضا التحول من الحزب الواحد الى التعددية السياسية المقيدة كانت بدافع ورغبة النظام السياسي، وهذا الدور قامت به أيضا الدولة فيما يتعلق بعملية الخصخصة وبيع القطاع العام مع بدايات التسعينات من القرن العشرين وحتى الآن.

لذلك هناك أكثر من علامة استفهام حول جدية عمليات الإصلاح هذه والتي أخذت طابعا شكليا دون تأثير يمكن استشعاره في ديناميكية المجتمع نفسه. ولا ريب وفقا لنظريات التنمية أن يكون للدولة دور في عملية الإصلاح عن طريق القيام بوظيفتها في التوزيع السلطوي للقيم سواء بطريق مباشر او غير مباشر، أي القيم السياسية والايديولوجية والاجتماعية كما الفرص والسلع الاقتصادية، ومن ثم فما تقوم به الدولة يظل مشروعا على اعتبار أن ذلك يتم في إطار تقوية المجتمع واستجابة للمطالب المجتمعية، حيث أنها تعمل على إعادة توزيع المصالح العامة التى تعبر عن التباينات المختلفة. ويؤكد أنصار هذه المقاربة على مركزية المجتمع التي يقابلها عدم ضعف الدولة، حيث معيار قوتها هنا نابع من قدرتها الاستجابية للمطالب المجتمعية والقدرة علي توزيعها بكفاءة. وترتبط الاشكالية بالدور التنموي الذي تلعبه الدولة كما تجسدها حالة مصر: حيث هناك ما يشبه المعضلة في علاقتهما. ففي التقسيم الذي قدمه اريك نوردنرجر تحدث عن نموذج الدولة القوية، أي التي تتمتع باستقلالية عالية في مقابل وجود دعم وتأييد لسياساتها من قبل المجتمع. لكــــنْ في مقابل ذلك هناك نموذج الدولة الضعيفة، حيث تكون درجة استقلالها الذاتي منخفضة في الوقت الذي يكون التأييد والدعم لسياستها منخفضاً.

وهذا النموذج ينطبق على مصر ومعظم الدول العربية، حيث الدولة حتى وإن ظهرت قوية في قبضتها الأمنية والسلطوية، فهذا يترجم فقط تجاه المجتمع الضعيف بطبيعة الحال. أما بقياس الإطار الطبيعي لقوة الدولة فإنها تُعدّ ضعيفة. ويصبح من الصعب القول ان هناك مركزية لسياسة الدولة مثلما يصعب القول بوجود مركزية للمجتمع، فتغدو ثقافة القطيع هي المحركة، وإحدى سماتها السير بطريقة لا إرادية حتى لو كان الى الهلاك.

وتجلت هذه السمة من ثقافة القطيع في ظل الدولة الضعيفة والمجتمع الضعيف، انجرافا في التدين المرضي والانسياق من دون وعي وراء من يرفع رايته. وهذا كان دليلاً على علاقة طردية بين حالة التغييب التنموي للمجتمع من قبل الدولة وتزايد حالة التجنيد الديني المرتبط في أطروحاته بالماضي. وقد نتج عن الضعفين وضع شاذ مع سيطرة وطغيان صناعة الاستبداد بشكل وأطر وأقنعة دينية لا تقيد حرية التعبير فقط وإنما تكمن أيضا خطورتها في أنها تقيد العقل وتقتل الفكرة في مهدها قبل ان تولد.

فنجاح التيار الديني في هيمنته على عقل المجتمع جاء نتيجة لهذا العامل (الدولة الضعيفة والمجتمع الضــــعيف) فضلا عن العوامل الأخرى المرتبطة به، وهو ما خلق بيئة مناسبة لنمو هذا التيار بافكاره وأتباعه. فالكثير من الشباب على مراحل زمنية مختلفة، في ظل ضعف المجتمع والدولة معا، انــــــخرط في التدين والانـــــتماء الى التنظيمات الاسلامية حـــيث وجــــد في الانضمام اليها ما يشبه التعويض والاشباع للكثير من الاحتياجات التى يفتــــــقد اليها، كـــــتفريغ سخطه السياسي تجاه الدولة التي حرمته مؤسســـاتها من ان ينمو بشكل طبيعي، ومن ناحية ثانية أشبعت عنده النــــقص الناتج عن عملية التــــغييب والتهميش السياسي التى يعيشها ولم تعـــــوّضها مؤسسات الدولة او الحزب الحاكم او الأحزاب والقـــــوى السياسية الأخرى. فـــــهذه الدوائر المختلفة للـــــتنشئة السياسية باتت شــكليا موجودة، انما غير ذات اثر وفاعلية في المجتمع، وأصبحت بذلك مفــــتقدة لأبسط أنواع وظائفها تجاهه.

وقد حدث ذلك في وقت كان التيار الاسلامي ينجح في ما فشلت فيه هذه المؤسسات من تواجد وتـــــفاعل مع الشباب. فقد حضر هذا التيار في المجتمع المصري لا تخلو من قرية او مدينة من اتباعه. واستطاع دعاة التيار الاسلامي ان يوظفوا عامل ضعف الشخصية المصرية تجاه كل ما يتعلق بالدين بتوظيفهم للدين وكل ما يتعلق به من قضايا مجتمعية لصالحهم .

ونجاح هذا التيار داخل المجتمع ظهرت هيمنته عندما قام ببعض الادوار البديلة للدولة، من تقديم الخدمات التعليمية والصحية ومساعدة غير القادرين. وهو دور كان من المكن ان يدخل ضمن نشاط المجتمع المدني وبالتالي يكون احد الدعامات الأساسية لخلق مجتمع قوي. ولكن ارتباطه بالدين يضع أكثر من علامة استفهام حوله. فعند النظر الى أدوات ومخرجات التيار الإسلامي داخل المجتمع المصري نجده يحدث ما يشبه الانقلاب داخل الشخصية المصرية وثقافتها، التي لها سماتها الخاصة الممتدة بجذورها الى عصور الفراعنة مرورا بالرومان والفتح الإسلامي والمماليك والعصر الحديث. فعلى مدار هذه الأزمنة المختلفة انصهر كثير من روافد كثيرة من هذه الثقافات داخل الشخصية المصرية، ومن ثم اختلفت هذه عن غيرها من الشعوب العربية الاخرى في سماتها التدينية المرتبطة بالتسامح. الا ان دخول متغير الدين بشكله الراديكالي كمرجعية معرفية للحياة بشكلها الاجتماعي والسياسي، دفع الى تغيير السلوكيات وتنميط التصرفات للافراد ووضعها داخل اطر اسلامية قد لا تكون عصرية بالضرورة.

فاذا كان انتشار التيار الديني جاء نتيجة طبيعية لضعف المجتمع والاستبداد السياسي، فلا غرابة ان يتولّد عن هذه العلاقة أيضاً الاستبداد الاجتماعي والديني القاتل للعقل والحرية بالأساس والذي يجعل ديناميكية المجتمع تنحصر في اطار laquo;افعل ولا تفعلraquo; وفقا لحدود تأويلهم للشريعة وتصبح اشكالية الحياة كلها محصورة بين هل هذا حرم ام حلال دونما اعمال للعقل قي مستجدات الحياة والبحث عن حلول لمشكلات تتعلق بالواقع الاقتصادي وقضايا الفقر والتعليم والحياة بشكل عام.