صبحي حديدي

لولا أنّ الأمر يشمل أيضاً مفارقة مريرة تخصّ عذابات الشعب السوري تحت نير سلطة الإستبداد والفساد والنهب والطيش والمغامرة والعبث بأقدار البلاد، فإنّ المرء كان يحقّ له أن يضحك طويلاً إذْ يقرأ البيان ـ النكتة الذي أصدره مؤخراً عبد الحليم خدام، نائب الرئاسة السورية منذ عام 1984 وحتي العام 2005 والمنقلب بقدرة قادر إلي معارض مطالب بالتغيير الديمقراطي. والبيان يأخذ صيغة نداء إلي البعثيين في مناسبة الذكري الرابعة والأربعين لانقلاب 8 آذار (مارس) 1963، الذي أنهي حكم الإنفصال علي يد مجموعة بعثية ـ ناصرية من ضباط الجيش، ثم انتهي بعد أشهر معدودات إلي استفراد البعثيين بالسلطة.

ما يضحك، منذ السطور الأولي في الواقع، أنّ خدّام كفّ عن استخدام التعبير الرسمي المعتمد، أي ثورة الثامن من آذار ، وانتقل إلي تعبير حركة الثامن من آذار ، وكأنّ الرجل اكتشف أنّ ما جري كان مجرّد حركة (إنقلاب عسكري، ربما؟)، ولم يكن ثورة العمال والفلاحين وصغار الكسبة ضدّ الإقطاع والكومبرادور والرجعية والبرجوازية والإستعمار والإمبريالية (كما كان الخطاب البعثي يردّد، وما يزال يفعل مع تعديلات هنا وهناك، بحكم موت المصطلحات أو اندثارها، وتبدّل السياسات والأحلاف والانحيازات). قد يردّ البعض: أن يصل خدّام متأخراً، خير من أن لا يصل أبداً. ليس تماماً، لأنّ هذه الذكري لا تخصّ تلك الحركة فحسب، بل هي أساساً تسجّل مرور 44 سنة علي فرض قوانين الطواريء والأحكام العرفية، الأمر الذي يسكت عنه خدّام نهائياً وكأنه ليس من عبقرية تلك الحركة وليس أبكر آثامها بحقّ الشعب السوري.

التشديد علي هذا الجانب بالذات من تاريخ انقلاب 8 آذار هو التفصيل الأهمّ في البيانات التي أصدرتها مختلف الأحزاب والقوي والهيئات واللجان المنضوية، أياً كانت طبيعة انضوائها، في حركة المعارضة السورية. هذا هو محتوي بيان الأمانة العامة لـ إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي في سورية ، مثلاً، والذي دعا إلي اعتصام أمام قصر العدل يوم غد السبت، وشدّد علي آثار حالة الطوارئ والأحكام العرفية في ما وصلت إليه سورية من قطيعة بين المجتمع والسلطة وتردي مستويات الحياة للشعب السوري، التي نجمت عن استبداد واستئثار بالسلطة بالقرار السياسي والاقتصادي . كذلك، ورغم حياء الصياغة واقتصارها علي تعبير أحداث القامشلي في توصيف الجرائم التي ارتكبتها السلطة بحقّ المواطنين الأكراد في القامشلي والحسكة وعفرين ودمشق وسائر التجمعات السكانية الكردية في سورية، فإنّ البيان تذكّر علي الأقلّ ما تناساه خدّام نهائياً: أنّ المناسبة تصادف أيضاً الذكري الثالثة لتلك الأحداث الدامية، وأنها إحدي إفرازات حالة الطواريء، والتي مرت دون محاسبة المسؤولين عنها حتي الآن .

ما يضحك، تالياً، أنّ النائب السابق والبعثي الدائم يتوجه بندائه هذا إلي رفاقه البعثيين، ليطرح عليهم سلسلة أسئلة تنتهي ـ صدّقوا أو لا تصدّقوا! ـ إلي تبرئة حزب البعث من كلّ مسؤولية عن حال البلاد الراهنة التي أوصلها إليها نظام استباح كل المحرمات وانتهك كل القيم ، وكان من طبائعه إلغاء الحياة السياسية وتعطيل دور المؤسسات الدستورية وتجاوز القوانين لأن كلمته هي القانون، وارتكاب المجازر حفاظاً علي سلطته وعلي وحدانيته، ونشر الفساد وزرع الخوف ! وخدّام يسأل رفاقة البعثيين، هكذا: هل الحزب هو الذي أجاز لرئيس النظام حافظ الأسد أن يطلق أيدي أسرته في البلاد وأن يجيز لها ممارسة الفساد؟ ؛ وأيضاً: هل الحزب الذي أجاز لرئيس النظام بشار الأسد إصدار القوانين والقرارات والتوجيهات لتمكين أسرته من إحكام سيطرتها علي الاقتصاد الوطني وعلي المؤسسات والمرافق العامة؟ ؛ وأيضاً: هل الحزب هو الذي أجاز لرأس النظام مصادرة الحريات وممارسة القمع وتعطيل الحياة السياسية وتزوير المؤسسات والتحكم بالمنظمات الشعبية والنقابية؟ ؛ وأخيراً: هل الحزب هو الذي أجاز لرأس النظام أن يغرق في أوحال الفساد في الوقت الذي لا يجد فيه معظم المواطنين لقمة العيش؟ .

والحال انّ المرء، مستنداً إلي حقائق التاريخ الراسخة البسيطة، يستطيع الإجابة علي جميع الأسئلة السابقة بـ نعم ، واحدة واضحة كافية وافية، حتي إذا شاء أن يحفظ للجدل كلّ الهوامش المشروعة التي تشير إلي أنّ حزب البعث لم يكن المسؤول الأوحد عن تلك الكوارث، أو أنه إذا كان المسؤول الأوّل فهو ربما ليس المسؤول الأوّل والأخير، فضلاً عن اعتبارات أخري تخصّ درجات اشتراك حزب البعث في السلطة بين حقبة وأخري، ومستويات صعود نفوذه أو هبوطه بين منعطف وآخر، بين هذه أو تلك من التحوّلات الأمنية أو السياسية او الاقتصادية التي شهدتها البلاد خلال انقلابات البعث منذ 8 آذار 1963، مروراً بحركة 23 شباط (فبراير) 1966، وصولاً إلي انقلاب 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1970 الذي وضع حافظ الأسد في هرم السلطة (ولا نحتسب توريث بشار الاسد إلا استمرارية محضة لنظام أبيه، دون أن نتجاهل بعض الاجتهادات التي تجعل الابن أدهي من أبيه!).

ولكي نبقي في تاريخ هذه الحركة الأخيرة، لأنها أيضاً الطور الأسوأ الأسود الأشدّ استبداداً، كما أنها الفترة الذهبية لصعود خدّام نفسه إلي سدّة عليا في الحكم، نسأل أين كان البعثيون الأشاوس حين شهد العالم بأسره مهزلة انعقاد مجلس الشعب السوري، علي نحو كرنفالي أقرب إلي استعراض السيرك منه إلي أيّ اجتماع بشري، من أجل تعديل المادة 83 من الدستور لكي تلائم توريث بشار الأسد، بعد ساعات معدودات علي وفاة أبيه؟ بل أين كان هؤلاء الرفاق أنفسهم حين أصدر شيخهم الأعلي مرتبة آنذاك، عبد الحليم خدّام دون سواه، القانون رقم 9 تاريخ 11/6/2000 القاضي بتعديل المادة 83 ليصبح عمر رئاسة الجمهورية الدستوري مطابقاً لعمر الوريث آنذاك (34 سنة)، إلي جانب ترفيع الضابط بشار الأسد من رتبة عقيد إلي رتبة فريق، دفعة واحدة، وتعيينه قائدًا عامًا للقوات المسلحة؟
وأين كان البعثيون في المؤتمر القطري التاسع الذي انعقد بعد أيام معدودات علي هذا الكرنفال، لا لكي يتخذ توصيات سرعان ما اتضح أنها جوفاء طنانة رنانة (كالنصّ، في الحياة السياسية، علي الحاجة إلي تطوير النهج الديمقراطي القائم بصورة تتعزز معها الجبهة الداخلية، وتتحقق مشاركة أوسع فعالية وجدية للجماهير، وتنشط الحياة الحزبية، وتضمن الحريات العامة التي كفلها الدستور والقانون بما في ذلك حرية الرأي والتعبير ؛ أو، في الجوانب الاقتصادية، مناقشة الخلل القائم في البنية الاقتصادية، وحالة الركود والانكماش في الاقتصاد الوطني، وتأثير ذلك كله علي مسيرة البناء والتقدم، وعلي مستوي معيشة المواطنين وتوفير احتياجاتهم، وتأمين متطلبات الدفاع الوطني ...!)، بل لكي يتخذ قرارين هما الأهمّ كما يعترف الحزب ذاته في موقعه الرسمي: اختيار الرفيق الدكتور بشار الأسد قائدا لمسيرة الحزب والشعب ، و انتخاب الرفيق بشار الأسد أميناً قطرياً للحزب ؟

ذلك المؤتمر القطري التاسع كان، في حقيقة الأمر، يختتم فصلاً إضافياً في تاريخ الحركة التصحيحية ، دون أن يدشّن في الآن ذاته أيّ فصل جديد في الحركة الجديدة، الوجيزة الخاطفة التي أسفرت عن تنصيب بشار الأسد وكان خدّام أحد أبطالها الكبار، إسوة بحفنة محدودة من الرفاق البعثيين في قيادة الأجهزة الأمنية والجيش والحزب والدولة. وكان المؤتمر أشبه بترجيع مكرور لصدي المؤتمرات الحزبية السابقة التي عُقدت في عهد الأسد الأب: تصفيق وتهليل وعبادة فرد، وتقارير زائفة عن الأوضاع التنظيمية والداخلية والسياسية والاقتصادية، وإعلان العزم علي الإصلاح والتجديد وتقديم الدماء الشابة، ثمّ انتخاب قيادة جديدة ذات دماء شابة بالفعل، ولكنها ذات عقول مكبلة طائعة مطيعة، وأيدٍ مغلولة إلي الأعناق، وحناجر لا تتقن سوي الهتاف بحياة القائد.

ولم يكن في هذا أيّ جديد غريب، حين يتذكر المرء التصحيح الراديكالي الذي أدخله حافظ الأسد علي طبيعة اشتراك حزب البعث في سلسلة القيادة الامنية والعسكرية والسياسية، وموقع الحزب في هرم اتخاذ القرار. ومن المعروف أنّ حافظ الأسد، وبعد أشهر قليلة أعقبت استلامه السلطة، أجري سلسلة سياسات تصحيحية (لعلّها كانت أكثر وفاء لتسمية الحركة التصحيحية )، استهدفت تدعيم أركان حكمه. بين تلك التصحيحات كانت إعادة بناء الأجهزة الأمنية، وتبديل بنية الجيش السوري القيادية، وتأسيس وحدات عسكرية مستقلة أشبه بجيوش داخل الجيوش (سرايا الدفاع، الوحدات الخاصة، الحرس الجمهوري، سرايا الصراع). بعضها الآخر شمل الحياة السياسية (انتخابات الرئاسة، ومجلس الشعب، وما يُعرف اليوم باسم الجبهة الوطنية التقدمية )، وتأسيس أو تبديل وظائف المنظمات الشعبية بحيث ترتدي طابعاً شبه فاشي (منظمة طلائع الثورة للتلامذة ، و شبيبة الثورة للفتيان، و اتحاد الطلاب للجامعيين).

لكنّ أبرز تصحيحات الأسد السياسية كانت مقاربته الجديدة لدور حزب البعث الحاكم. ذلك لأنّ هذا الحزب لم يكن جماهيرياً في أيّ يوم، ليس بمعني افتقاره إلي التأييد الشعبي فحسب، بل بمعني بنيته النخبوية ونظامه الداخلي الذي يجعل التنسيب والإنتساب عمليات معقدة أقرب إلي اختبار السَحَرة. وفي أيّام المجموعة القومية ، عهد ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأمين الحافظ، كما في أيّام المجموعة القطرية بعد حركة 32 شباط، ساد اليقين بأن التنسيب الواسع للأعضاء الجدد سوف يؤذي جسم الحزب ويتسبب في تمييع خطه السياسي وتركيبه الطبقي. ولهذا كان التركيز شديداً علي ما عُرف آنذاك بـ المنبت الطبقي للمرشح، وجري تفضيل أبناء الطبقات الكادحة علي أبناء الأغنياء من الإقطاعيين والبرجوازيين.

تصحيح الأسد تمثّل في فتح باب الحزب علي مصراعيه أمام المنتسبين الجدد أيّاً كان منبتهم الطبقي، بل وجعل الإنتساب إلي الحزب أمراً شبه إجباري لا غني عنه من أجل ضمان دخول المعاهد والجامعات، وضمان الحصول علي الوظيفة. وكان الغرض المستتر هو بالضبط ما سعي القوميون والقطريون إلي تفاديه: تعمية الخطّ السياسي وتمييع التركيب الطبقي. وبالفعل، لم يمضِ وقت طويل حتي انقلب الحزب إلي مؤسسة انتهازية نفعية خاضعة للأجهزة الأمنية، وسرعان ما انخرط أعضاء الحزب في تعامل مباشر أو غير مباشر مع دوائر الأمن، وأخذوا يعتبرون كتابة التقارير والوشايات واجباً تنظيمياً، فدانوا بالطاعة إلي رئيس فرع المخابرات أكثر بكثير من طاعتهم لأمين فرع الحزب.

هذه التصحيح ساهم في توطيد المزيد من أنساق ثقافة الطاعة، وسهّل توسيع شبكات الولاء الفردي ومنحها بنية تراكمية وتسلسلية لم تكن متوفرة في الماضي. وهكذا أخذت قوّة الحزب الحاكم، ومن خلفه المنظمات الشعبية، تعتمد علي مقدار ما تستطيع تأمينه من منافع ومزايا للأعضاء ـ الزبائن، الذين باتت علاقتهم بالحزب أو المنظمة قائمة علي جني المكاسب طبقاً لما يقدّمه العضو الزبون من خدمات (أمنية استخباراتية غالباً، سياسية بين حين وآخر، ودعاوية إجمالاً).

الأرجح أنّ هذه هي حال الغالبية الساحقة من البعثيين الذين يتوجه إليهم خدّام اليوم بالنداء، وسبق له أن توجّه إليهم مراراً منذ أن أعلن انشقاقه، الذي لم ينقلب بعد إلي حركة ! وليس في هذا (أي تكرار النداء من جانبه، وصمت القبور من جانبهم) مدعاة لأيّ عجب لأنّ حال المنادي شبيهة بحال المنادي عليه... أو تكاد، لكي لا نظلم فئة قليلة من البعثيين، الله وحده يعلم عددها، وأين تكمن، وكيف تتخفي، وإلام تواصل الصمت!