غسان الإمام

باكستان دولة إسلامية. لكن عند تأسيسها (1947) لم يدر في خيال مؤسسها محمد علي جنة أن تكون دولة دينية. جنة كان إسماعيلياً. كان من الزعماء المسلمين المقرّبين إلى غاندي خلال النضال الهندي ضد الاستعمار. حاول غاندي في نأيه بالدين عن السياسة، أن يقنع جنة بإبقاء المسلمين في الهند بعد الاستقلال. لكن التعايش كان مستحيلاً بين أكثرية هندوسية تقدس البقرة وأقلية إسلامية تأكلها.

كانت عملية الانفصال مؤلمة. انتُزع ملايين الهندوس والمسلمين من بيئاتهم. هاجروا جماعات ضخمة. كلما التقوا في الطريق تذابحوا. مات أكثر من مليوني مسلم وهندوسي في هذه المجازر الجماعية. كانت الليبرالية العربية من الجرأة آنذاك بحيث نددت علناً بالانفصال. عارض مصطفى النحاس زعيم حزب laquo;الوفدraquo; المصري استخدام الدين كذريعة لتقسيم الهند. كان النحاس بعيد الرؤية.لم يشكل الدين عامل توحيد في باكستان. انفصلت بنغلادش. النزاعات الجهوية والعرقية على أشدها حاليا، على الرغم من الفورة الدينية.

نجحت الهند حيث أخفقت باكستان. استوعبت الديمقراطية الهندية، على فوضاها، الصراعات الإقليمية والدينية بكثير من العناء وقليل من الدماء. هناك 150 مليون مسلم في الهند لا يفكرون بالهجرة إلى باكستان. اليوم باكستان ليست من صنع جنة والروّاد الأوائل. هي من صنع جنرال شديد التزمّت الديني والعسكري اسمه محمد ضياء الحق. جاء هذا الجنرال في الوقت المناسب الذي شهرت فيه أميركا السيف الديني في الحرب الباردة. التقت مصلحة أميركا مع الجنرال في تقويض سياسة علي بوتو الليبرالية في الداخل والمحايدة في الصراع الدولي. كان ضياء الحق غادرا. تخطَّى به بوتو زملاءه الجنرالات وعيّنه رئيسا للأركان. لم ينته عام 1979 إلا وكان بوتو جثة هامدة معلقة على مشنقة الجنرال.

لكي يتكيف الجنرال ضياء الحق مع ظروف أميركا في سقف آسيا، فقد لجأ إلى اعتماد laquo;المدرسةraquo; الدينية لتخريج laquo;المجاهدينraquo; الذين خاضوا حرب أميركا ضد الروس في أفغانستان، وبينهم الملا محمد عمر زعيم طالبان. رفع ضياء الحق عدد هذه المدارس من بضع مئات إلى عدة آلاف. يتراوح عددها في عهد الجنرال مشرف بين 15 و25 ألف مدرسة، وبلغ عدد خريجيها نحو مليون إمام وواعظ وlaquo;مجاهدraquo;.

كانت laquo;المدرسةraquo; الدينية الباكستانية قطيعة تامة مع العصر. التعليم والثياب والمأوى والكتب بالمجان، لكن لا موسيقى. لا رياضة. لا بنات. لا صور. لا علوم اجتماعية واقتصادية. حتى الطب يتوقف تدريسه عند الطب العربي القديم. الدراسة تتمحور حول تحفيظ القرآن بلا شرح وتفسير، وتدريس الاجتهاد الحربي في العصور الوسيطة، من دون مراجعة أو نقد. كل ذلك في غياب شبه تام للمدرسة الحكومية.

مات ضياء الحق في حادث سقوط طائرة هليكوبتر غامض (1988). جاء موته مساهمة في خلاص أميركا من سيفها laquo;الجهاديraquo; الذي لم يعد له لزوم، فيما كانت إمبراطورية غورباتشوف تحتضر. بعد نهاية الحرب الباردة، كانت أميركا كلينتون بحاجة إلى ديمقراطية ليبرالية في العالمين العربي والإسلامي، لاسيما مع بداية الصراع بين الغرب والإسلام laquo;الجهاديraquo;.

لسوء الحظ، لم تنجح ليبرالية بنازير بوتو واعتدال نواز شريف في ترسيخ أقدامهما في باكستان التسعينات، بسبب عوامل كثيرة لا مجال لشرحها هنا، منها سوء الإدارة والفساد، وأهمها كون آيديولوجيا ضياء الحق قد تأصلت في صميم المجتمع والمؤسستين العسكرية والمخابراتية. عاد العسكر إلى لعب لعبة تسييس الدين، وتملّق الأحزاب والتنظيمات السياسية الدينية وlaquo;الجهاديةraquo; بما فيها طالبان وlaquo;القاعدةraquo;.

عندما لم يعد النظام قادرا على هدهدة موجة الغلو الديني، اضطر إلى ركوب الموجة بإظهار التقوى. حتى مشرف اعتمد حزبا دينيا له، ودخل في ائتلاف مع أحزاب دينية أخرى. حتى بنازير بوتو اضطرت إلى تطعيم ليبرالية أوكسفورد وهارفارد بمقاربة دينية خاشعة. أما نواز شريف فقد laquo;أسلمraquo; حزبه سلفا.

خلافا للشائع، أقول هنا إن laquo;القاعدةraquo; لم تستفد كثيراً من تلامذة laquo;المدرسةraquo; الدينية. نعم، شكل هؤلاء بيئة مناسبة لإشاعة التزمت الديني، لكن laquo;القاعدةraquo; توجهت في مقارعة الغرب laquo;الكافرraquo; وlaquo;جاهليةraquo; المجتمع الإسلامي، بجيل شبابي أكثر تعقيدا وثقافة وعلما! ابن لادن ومحمد عطا مهندسان، الظواهري وزياد جراح طبيبان... لكن هؤلاء ليسوا بمتدينين مواظبين على الصوم والصلاة، وليسوا حتى مع ابن لادن والظواهري من المتوغلين في علوم الدين.

أميركا بوش التي تخوض حربا فاشلة ضد الإرهاب، تحصد ما زرعت أميركا كارتر وريغان. هي اليوم تحارب laquo;الجهاديةraquo; التي اعتمدتها وموّلتها سابقا. عندما أفاقت أميركا على ما صنعت يداها، حاولت إنقاذ نظام حليفها مشرف بتطعيمه بليبرالية بنازير بوتو، لتعويم شعبيته وحثه على مواصلة حربه الانهزامية ضد laquo;القاعدةraquo; والتنظيمات الجهادية المنتشرة كالفطر، لاسيما على الحدود مع أفغانستان.

عادت بوتو إلى باكستان لتفاجأ بإعلان الجنرال العنيد حالة الطوارئ بحجة الأمن ومكافحة الإرهاب. بدلا من أن يعتقل ويلاحق laquo;الجهاديينraquo; راح يعتقل أنصار بوتو والليبراليين.

وهكذا وجدت هذه المرأة الشجاعة نفسها محاصرة بين خصومها المخابراتيين في نظام مشرف وأعدائها laquo;الجهاديينraquo; المطالبين برأسها. باتت بوتو محكومة بالإعدام. إن نجت من هؤلاء، لن تنجو من أولئك. كان اغتيالها، بصرف النظر عن ملابساته، إحراجا لأميركا بوش التي غررت بها، ودفعتها إلى الأتون، قبل أن تقنع الجنرال تماما بفائدة التحالف معها.

هل في محنة laquo;المسايرةraquo; للجهاديين والمتزمتين التي يتخبط فيها النظام الباكستاني، عبرة للنظام العربي؟

منذ السبعينات، وتجفيفا للقومية العربية، وانتهازا للاديمقراطيتها، سار النظام العربي على وتيرة النظام الباكستاني: احتضن الإخوانية المتسيّسة، من دون دعوة لها للتخلي عن تزمتها الديني وجمودها السياسي. عن المرجعية الإخوانية، انشقت تنظيمات جهادية أكثر تزمتا وعنفا. في المزايدة على هذه التنظيمات، لجأ النظام إلى مؤسسته الدينية التقليدية، فأشبعت المجتمع بجرعات لا تتوقف من إسلام التقليد والطقوس، فزادته استعدادا وتأهبا لتقبل رؤى وأفكار الإسلام الجهادي، من دون أن يشارك ـ لحسن الحظ ـ إلى الآن في تمرد تنظيماته وعنفها.

عندما شعرت المؤسسات الإخوانية والجهادية والتقليدية بقوتها السياسية، تقدمت لتفرض وصايتها على الفكر والثقافة والفن والإعلام والتربية والتعليم. في المقابل، مضى النظام أيضا في مسايرتها! لا هو قادر على تبني ديمقراطية حقيقية ترشح هذه القوى للحلول محله، ولا هو قادر على مجابهتها والتصدي لتزمتها، بعدما مكنها من الهيمنة الفكرية والتلفزيونية على مجتمع يشاهد ويرى أكثر مما يفكر ويعي.

وهكذا أيضاً، كلما حقق الإسلام السياسي تقدما، حقق النظام تراجعا، ربما وصولا في يوم ليس ببعيد إلى موقف النظام الباكستاني الذي بات ضحية للقوى التي رعاها وعمل على تنميتها، قوى لم تعد تقبل بدور المعارضة السلمية، أو حتى بالحوار والمشاركة، بل هي تزحف من laquo;تورا بوراraquo; الجبلية الحدودية إلى صميم باكستان، آملة في سقوط نظام مهلهل ثمرة ناضجة في حضنها.

إذا لم يكن ما جرى في باكستان كافيا، فما يجري في الجزائر وموريتانيا ولبنان وغزة والعراق، درس وعبرة للنظام العربي، لعله يعمل، قبل فوات الأوان، لوقف هذه القوى عند حدودها، ليس بمكافحتها بعصا الأمن فحسب، وإنما بإشاعة حرية الفكر والثقافة والفن والكتاب السياسي والاجتماعي، إذا كان صعبا إشاعة ديمقراطية الحوار والمشاركة.