يجدون في الضاحية الجنوبية لبيروت طيب الإقامة وحسن المعاملة.. ولكن!

عباس صباغ

في الضاحية الجنوبية لبيروت، يصطف عشرات العراقيين امام مركز انتخابي لاختيار نوابهم. العدد الكبير يشي ان الكتلة العراقية في لبنان يحسب لها حساب اذا ما قارناها بعدد سكان لبنان الذي لا يتجاوز ثلاثة ملايين نسمة. (لا يوجد في لبنان احصاء رسمي للسكان منذ اكثر من 70 عاما).
هذا المشهد كان في ديسمبر عام 2005.
الا ان وصول العراقيين باعداد كبيرة الى لبنان لم يبدأ بعد احتلال العراق في ابريل 2003 بل يعود الى مطلع التسعينات من القرن الماضي وتحديدا بعيد الانتفاضة الشيعية في الجنوب العراقي التي قمعها نظام الرئيس السابق صدام حسين. يتمركز العراقيون في لبنان في ضاحية بيروت الجنوبية ذات الغالبية الشيعية والتي تعتبر 'الغيتو' الشيعي التابع ل'حزب الله'.
هؤلاء يمارسون بعض المهن والحرف التي يسمح للوافدين بممارستها في لبنان. لذلك يعمل معظمهم في مجالات الخياطة والصيرفة والتجارة... ويقيم معظمهم في بيوت صغيرة متواضعة، ومنهم من يعمل حارسا في المباني التابعة ل'حزب الله'. خصوصا ان الحزب قد طرد معظم الحراس السودانيين والأفارقة بعيد انتهاء حرب تموزوتوجيه اصابع الاتهام الى هؤلاء بالتعامل مع اسرائيل.

الوضع القانوني
يعاني العراقيون في لبنان من اهمال مزدوج: الأول عدم ايلاء السفارة العراقية اي اهتمام لأوضاعهم، والثاني يتمثل في حجب اي رعاية رسمية لبنانية لهؤلاء، مما يضعهم امام مصير قاتم رغم حسن المعاملة التي يلقونها في مناطق نفوذ 'حزب الله'.
وفي هذا السياق يقول ابو عبدالله (33 عاما): 'لقد حضرت الى لبنان قبل 4 اعوام ولم اجد عملا لائقا مع انني حائز على شهادة جامعية في مجال هندسة الاتصالات. لكن للأسف اعمل حاليا في احد المطاعم المشهورة في الضاحية واتقاضى راتبا لا يتعدى 300 دولار اميركي'.
اللجوء.. حلم دائم
يطمح معظم العراقيين في لبنان الى السفر الى اوروبا وخصوصا الدول الاسكندينافية والمانيا. ويتقدم هؤلاء بانتظام بطلباتهم الى المفوضية السامية للأمم المتحدة في بيروت.لكن عليهم الانتظار حتى يأتي الرد الإيجابي.
الاهتمام الرسمي الوحيد الذي يلقاه هؤلاء يتمثل بما تقوم به جمعية الصداقة العراقية اللبنانية، وتقول رئيسة الجمعية منال الربيعي: 'مشاكل العراقيين في لبنان كثيرة، لكن اهمها غياب الاهتمام الرسمي بهؤلاء دون الاخذ بالاعتبار الاوضاع الانسانية السيئة للعديد من الاسر العراقية الفقيرة في لبنان. وتسعى الجمعية ضمن امكاناتها المتواضعة لمساعدة العراقيين في لبنان وخصوصا في الضاحية الجنوبية'.
ويذكر ان جمعية الصداقة اللبنانية العراقية انشئت قبل اقل من عام ولا تزال في طور الاعداد لمشاريعها المستقبلية.
عاشوراء العراقية
ينشط العراقيون خلال ذكرى عاشوراء، ويواظب العديد منهم على قراءة مجالس العزاء في الضاحية الجنوبية لبيروت.
ويوضح احدهم:....... 'طبعا ليس هدفنا الحصول على المال مقابل قراءة المجلس الحسيني، لكن الاخوان هنا يقدرون اوضاعنا الصعبة'.
وتنتشر في العديد من المناطق اللبنانية الخيم العاشورائية العراقية ويشارك هؤلاء في مسيرة العاشر من محرم التي ينظمها حزب الله في العاصمة الجنوبية. وينتظم العديد في مسيرات 'اللطمية' والأخيرة تتميز عن مثيلاتها في لبنان نظرا الى الطريقة التي يؤدي فيها العراقيون اللطميات والندبيات.
خياطون وحراس
ايضا في الضاحية الجنوبية يمارس العراقيون مهنة الخياطة، و......وخصوصا بين من الأهالي.
في شارع فرعي من منطقة حارة حريك تعلو لافتة 'خياط' واجهة احدى المحال. صاحب المحل عراقي من البصرة. حضر الى لبنان في عام 1991 عن طريق الأردن ثم سوريا ودخل الى لبنان بطريقة غير شرعية، ويفضل محدثنا عدم ذكر اسمه الحقيقي ويستعير اسم ابو محمد العراقي ويقول: 'لا اعرف اي مصير يواجهنا في هذا البلد، خصوصا اني لا استطيع التقدم من السفارة العراقية للحصول على جواز سفر، ليس لدي اي اوراق ثبوتية بعد ان دمر المنزل الذي اقيم فيه في حارة حريك، ولم اعثر على اي وثيقة'.
يشير ابو محمد الى البناء المهدم حيث ينكب عدد من العمال على اعادة بنائه في شارع السيد عباس الموسوي في حارة حريك.
هي مشكلة فريدة ربما. خصوصا ان ابو محمد لا يملك اي اثباتات تدل على شخصيته، ورغم استعانته بأصدقاء لبنانيين وبعض المسؤولين في حزب الله، لم يستطع ابو محمد حتى اليوم انجاز معاملة جواز السفر، ويبقى مصيره معلقا ويخشى ان يقع في قبضة رجال الأمن اللبناني لأن مصيره يكون السجن ثم الترحيل الى العراق.
وسبق للحكومة اللبنانية وبالتعاون مع السفارة العراقية في بيروت ان نظمت عشرات الرحلات للراغبين بالعودة الى العراق في العام الماضي.
لكن البعض يتريث في العودة الى العراق لأن الأوضاع هناك لا تزال غير مستقرة هذا ما يفصله حيدر. ع. المقيم في منطقة حي السلم الفقيرة في اقصى الضاحية الجنوبية.
وتعتبر هذه المنطقة من اكثر المناطق حرمانا في لبنان، ويقطن فيها زهاء 150 الف نسمة معظمهم من البقاع والجنوب اضافة الى خليط من العراقيين والسوريين والسريلانكيين وغيرهم.
حيدر يفضل ان تحضر زوجته وابنه من العراق في اسرع وقت، لكن الظروف الراهنة لا تسمح بذلك، لأن ايجار الشقة في حي السلم يفوق ال200 دولار اميركي شهريا بينما يتقاضى حيدر راتبا لا يتعدى ال250 دولارا وبالتالي لا يستطيع تأمين ايجار الشقة ومصروف العائلة، مما يدفعه الى الاقتناع بما هو موجود.
هيومن رايتس
من جهتها تؤكد منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير اصدرته عام ،2007 ان السلطات اللبنانية تعتقل اللاجئين العراقيين ممن ليست لديهم تأشيرات اقامة، وتحتجزهم الى اجل غير مسمى لاكراههم على العودة الى العراق. وقال مدير برنامج سياسات اللاجئين في هيومن رايتس ووتش بيل فريليك: 'يعيش اللاجئون العراقيون في لبنان في خوف دائم من الاعتقال، ويواجهون في حال اعتقالهم احتمال البقاء في السجن الى اجل غير مسمى، ما لم يوافقوا على العودة الى العراق ومواجهة الأخطار هناك'.
ويوثق تقرير 'شقاء هنا أو موت هناك: خيارات بائسة للاجئين العراقيين في لبنان'، فشل الحكومة اللبنانية في اضفاء طابع قانوني على وضع اللاجئين العراقيين في لبنان، ويعرض بالتفصيل لأثر هذه السياسة على حياة اللاجئين. ودعت 'هيومن رايتس ووتش'، الحكومة اللبنانية الى منح اللاجئين العراقيين وضعا قانونيا مؤقتا يوفر لهم اقامة قابلة للتجديد وتصاريح للعمل. ويشير التقرير الى انه باستثناء عدد قليل من العراقيين، الذين تمكنوا من تنظيم وضعهم، فان أكثر اللاجئين العراقيين محرومون حق العمل، وقد نفدت مدخرات الكثيرين منهم.
ورغم حقهم في الالتحاق بالمدارس الحكومية، فان قلة من الأطفال العراقيين يلتحقون بها لأن آباءهم غير قادرين على تحمل نفقات التنقل والثياب والكتب، ولأن الأطفال مضطرون للعمل للمساهمة في توفير الدخل للأسرة. وقال فريليك 'ان عدم منح اللاجئين العراقيين أي خيار سوى البقاء في السجن الى اجل غير مسمى، أو العودة الى العراق، يعني أن لبنان ينتهك المبدأ المحوري للقانون الدولي للاجئين'. وهناك نحو خمسين ألف لاجئ عراقي في لبنان، وهو عدد ضئيل نسبيا من اجمالي 2.2 مليون لاجئ عراقي في الشرق الأوسط. وهناك حاليا قرابة 580 محتجزا عراقيا في لبنان.
اللاجئة العراقية سليمة وقفت على شرفتها المشرفة على بيروت، داعية الله الا تعيد السلطات اللبنانية ابنها الى العراق، حيث تعرض لاعتداء من قبل عصابات ارهابية. وتقول سليمة التي تعيش في غرفة صغيرة في ضواحي بيروت 'خسرت وطني ومنزلي، واجبرت عائلتي على الرحيل، بعدما تعرضت للقتل والترهيب. ولا اريد اليوم سوى ابني'. وتضيف 'وسام مسجون في لبنان منذ ثلاثة اشهر، لأنه لا يحمل اقامة، وأخشى ان يعيدوه في طائرة الى العراق، لأنه سيقتل هناك'. وتقول سليمة 'لم نختر المجيء الى لبنان. لو كنت اعلم بأننا سنتعرض للسجن والاهانة، لظللت في وطني ومت هناك'. عانت سليمة الامرين، حتى قررت الهرب من العراق قبل ثلاثة اشهر. فزوجها قضى بنوبة قلبية وقتل حفيدها، 16 عاما، واصيب احد ابنائها في رأسه جراء انفجار، وطعن ابنها الآخر في كتفه. سجنت بعيد وصولها الى لبنان، وافرج عنها بعد سبعة ايام لدواع صحية. وتقيم اليوم مع ابنها الثالث عياد وزوجته. ويقول عياد quot;شقيقي وسام في زنزانة تحت الارض تضم اربعين سجينا، بعضهم مجرمون. انه يعاني القرحة حتى أن طبيب السجن اوصى بعدم بقائه في مكان رطب'. ويضيف 'نحن عائلة عاشت يوما حياة كريمة في بلد خيرات. اما اليوم فنحن بائسون ومنفيون في بلد لا يعترف بنا. وما نرجوه ان ننتقل الى منفى افضل في اوروبا او مكان آخر'.
تصرف مرفوض
وذكر تقرير هيومن رايتس ان 'اجبار اللاجئين على العودة الى بلد تتعرض فيه حياتهم وحريتهم للخطر مرفوض، انطلاقا من مبدأ عالمي يحظر ارسال شخص الى مكان قد يتعرض فيه للاضطهاد او التعذيب'.
ودعت 'هيومين رايتس ووتش' الحكومة اللبنانية الى quot;منح اللاجئين العراقيين وضعا قانونيا موقتا يوفر، في الحد الادنى ، الاقامة وتصاريح العمل القابلة للتجديد'. ولفتت الى اعتقال 580 عراقيا في لبنان. وتابعت المنظمة 'يقدر عدد اللاجئين العراقيين في لبنان بخمسين الفا'.
وحضت الدول المضيفة على 'استقبال اللاجئين العراقيين الموقوفين والذين قد يشكل اللجوء بالنسبة اليهم البديل الوحيد من العودة قسرا الى العراق'.
شبح السجن
قال مصدر في المديرية العامة للامن العام في لبنان ان 'العراقيين يعاملون كسائر الاجانب، فاذا توافرت فيهم الشروط المطلوبة يمنحون اقامات، واذا كانوا يفتقرون الى اوراق قانونية علينا اعادتهم'، ورفض المصدر الادلاء بتفاصيل واضح تقرير لمؤسسة 'هيومان رايتس وتش' الاميركية يفيد بان السلطات اللبنانية تقوم باحتجاز اللاجئين العراقيين الذين لا يحملون تأشيرة سارية المفعول، وتقوم بسجنهم لمدد غير محددة من اجل ارغامهم على العودة الى العراق.

تعفن.. هنا!
التقرير الذي صدر عن مؤسسة هيومان رايتس واتش والمتعلق باللاجئين العراقيين في لبنان تكون من 66 صفحة، وحمل العنوان 'تعفن هنا، او مت هناك' شرح التقرير انعدام الخيار المطروح للاجئين العراقيين في لبنان، ووثق فشل الحكومة اللبنانية في منح هؤلاء اللاجئين وضعا قانونيا في لبنان، كما شرح تأثير مثل هذه السياسة على حياة اللاجئين العراقيين. ويضيف التقرير: 'ان رفض لبنان السماح لهؤلاء اللاجئين بالبقاء في لبنان بشكل قانوني اثر سلبا ليس فقط على النسبة القليلة من اللاجئين القابعين في السجون فقط، وانما كذلك على من هم خارج السجن يتحسبون بين لحظة واخرى ان يتم اعتقالهم، او الذين يعيشون حالة من الذعر الدائم وهشاشة وضعهم نتيجة الخوف من الاعتقال، او نتيجة استغلالهم والاساءة اليهم من قبل من يمنحونهم فرصا للعمل، او من يوافقون على تأجيرهم اماكن للسكن ويتحكمون فيهم، لذلك طالبت هيئة حقوق الانسان ان تمنح الحكومة اللبنانية اللاجئين العراقيين وضعا قانونيا مؤقتا يسمح لهم بالبقاء في لبنان بتوفير ادنى متطلبات المعيشة، ومنحهم اقامات قابلة للتجديد، والسماح لهم بالعمل عن طريق منحهم تصاريح رسمية للعمل بل اضافية'.

سيف الإبعاد المصلت
يوضح نديم حوري الباحث في منظمة 'هيومن رايتس ووتش' لوكالة الصحافة الفرنسية انه 'تم ابعاد 298 عراقيا الى بلدهم خلال عام 2006 و154 عراقيا بين يناير ويونيو 2007' واضاف ان 'من واجب الولايات المتحدة والدول الاخرى، التي شاركت في اجتياح العراق ان تتقاسم عبء الاهتمام باللاجئين العراقيين في لبنان وتوفر لهم حلولا دائمة'.

خوف دائم
ودفع عراقيون كثيرون في سوريا المال لتأمين الانتقال الى لبنان وبعضهم دفع اكثر من 250 دولارا ليتسلل عبر الحدود ولان لبنان بلد ذو توازنات طائفية دقيقة، ولا يزال يعاني من مشكلة اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948، فانه لا يمنح العراقيين عموما اوراقا قانونية مما يجبرهم على العيش في خوف دائم من السجن او الابعاد، حتى ان عليهم ان يتحملوا نفقات عودتهم.
وقال بيل فريليك مدير شؤون اللاجئين في مؤسسة (هيومان رايتس ووتش) يعيش اللاجئون العراقيون في لبنان حالة من الخوف الدائم خشية اعتقالهم، واللاجئون الذين يتم اعتقالهم يواجهون احتمال ان يتعفنوا في السجن الى ما لا نهاية، إلا اذا وافقوا على العودة الى العراق ليواجهوا المخاطر هناك.