عاطف الغمري

حضرت ندوة في واشنطن في آخر التسعينات، كان المتحدث فيها يوسي بيلين الوزير ldquo;الإسرائيليrdquo; السابق في حكومات حزب العمل، يومها شن هجوما على منظمة إيباك (اللوبي اليهودي) بسبب حملات الضغط التي تنظمها من أجل خفض المعونة الأمريكية لمصر، والدعوة إلى ربطها بعلاقة مصر وrdquo;إسرائيلrdquo;. ونبه إلى أن سلوك ldquo;الإيباكrdquo; حتى وإن أثمر في المساس بالمعونة لمصر، فسوف يلحق ضررا بrdquo;إسرائيلrdquo; على المدى البعيد.

كان هذا الهجوم والتنبيه، في عهد كلينتون وفي فترة حكم الليكود في ldquo;إسرائيلrdquo;، ووسط مناخ يتبع فيه كلينتون سياسة مع مصر، تحاول مراعاة المصالح المتبادلة، وتضع خطا فاصلا بين الأمن القومي ل ldquo;الولايات المتحدةrdquo; ومصلحة الأمن القومي ldquo;الإسرائيليrdquo;، مع عدم إغفال التحيز التقليدي لrdquo;إسرائيلrdquo;.

وفي المواجهة مع كلينتون كان هناك الكونجرس بمجلسيه، يتمتع فيه الجمهوريون بالأغلبية، وتعلو فيه أصوات المطالبة بإزاحة الخط الفاصل بين الأمن القومي الأمريكي وأمن ldquo;إسرائيلrdquo;، فكانت صيحة نيوت جينجريش (الجمهوري) رئيس مجلس النواب، في خطابه أمام المؤتمر السنوي ل ldquo;الإيباكrdquo; قائلا ldquo;إن ldquo;إسرائيلrdquo; هي حاملة طائراتنا في الشرق الأوسطrdquo;.

وخطاب زعيم الأغلبية الجمهورية بمجلس الشيوخ بوب دول، معلنا مشروعه لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. ثم لجوؤه عقب المؤتمر مباشرة إلى تقديم مشروعه الذي وافق عليه الكونجرس في الحال.

وضمن محاولات كلينتون تحقيق قدر من التوازن، إقامته ما سمي الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة ومصر، ليتحول إلى إطار مؤسسي للعلاقة، وقد افتتح أولى جلساته، وزيرا خارجية البلدين عمرو موسى ومادلين أولبرايت.

كان هناك أيضا جدل في الكونجرس وخارجه حول العلاقة المصرية ldquo;الإسرائيليةrdquo;، ضمن ضغوط لدمج هذه العلاقة في صميم العلاقة بين مصر والولايات المتحدة، بحيث تتحدد المواقف من مصر ومن المعونة الاقتصادية والعسكرية لها، بناء على تخفيف مصر موقفها من سياسة ldquo;إسرائيلrdquo; تجاه الفلسطينيين، ومن مسار عملية السلام، وتوسيع إطار التطبيع المجتمعي بين مصر وrdquo;إسرائيلrdquo;، على أساس شكواهم من حالة السلام بين البلدين، ووصفهم لها بالسلام البارد.

كان هناك كذلك موقف وزارة الدفاع (البنتاجون) التي حرصت على الوجود بالعلاقة مع مصر، خارج هذا الجدل، وإبعادها عن الحسابات والضغوط السياسية.

لكن مجمل استراتيجيات ldquo;البنتاجونrdquo; حدث لها انقلاب، مع شغل أقطاب المحافظين الجدد المناصب المؤثرة فيها ابتداء من الوزير، ولم يعد هذا التوجه قائما في وزارة الدفاع، والتي ترتبط قياداتها الجديدة بالليكود في ldquo;إسرائيلrdquo; بعلاقات تحالف منذ أول التسعينات.

وأصبحت سياسات ldquo;البنتاجونrdquo;، بالإضافة إلى السياسة الخارجية للولايات المتحدة عامة، جزءا من استراتيجية الأمن القومي الجديدة التي أعلنها البيت الأبيض في 20 سبتمبر/ أيلول ،2002 والتي وضعها، ويقودها المحافظون الجدد، والذين وصفهم بيل كيلر الذي يشغل الآن منصب رئيس تحرير صحيفة ldquo;نيويورك تايمزrdquo;، في دراسة مطولة، بأن ldquo;إسرائيلrdquo; تقع في مركز تفكيرهم.. أي أنه عندما يتعلق الأمر بقضية تخص دولة من دول المنطقة، فإنهم يحددون موقفهم منها حسب ما يخص مصلحة ldquo;إسرائيلrdquo; قبل أي شيء آخر.

ومنذ مجيئهم إلى السلطة في حكومة بوش تضاعفت ضغوط اللوبي اليهودي، في مسألة المعونة لمصر، والتي تحولت منذ عام ،2004 إلى بند ثابت في مناقشات الكونجرس، إلى أن نجح اللوبي اليهودي لأول مرة في المساس بالمعونة العسكرية لمصر، إثر ضغوطه على مجلس النواب الذي وافق على تعليق 100 مليون دولار من المعونة العسكرية، إلى أن تستجيب مصر لمطالب معينة.

هذا القرار يعيد إلى الذاكرة ما سبق أن نبه إليه يوسي بيلين، من أن ضغوط اللوبي ليست لمصلحة ldquo;إسرائيلrdquo;. والمقصود هنا رد فعل الرأي العام حين يتضح له في يوم ما، أن ربط السياسة الأمريكية بالأمن القومي لrdquo;إسرائيلrdquo;، قد عاد عليهم بالضرر. وهو شيء يماثل ما يتحدث فيه كتاب وخبراء أمريكيون منذ فترة، عن أن الكارثة التي أصابت الولايات المتحدة في العراق، كان وراءها قرار الغزو الذي اتخذ لخدمة مصالح ومطالب ldquo;إسرائيليةrdquo;.

وما سبق أن ذكره يوسي بيلين يتشابه إلى درجة ما، مع السؤال الذي طرحه مؤخرا يهود أمريكيون، عما إذا كان ما تفعله ldquo;الإيباكrdquo; هو لصالح ldquo;إسرائيلrdquo;، وهو ما أشار إليه مؤخرا البروفيسور اليهودي اريك الترمان الأستاذ بجامعة نيويورك في مقال له، وقوله ldquo;من وجهة نظري فإن ذلك ليس في مصلحة اليهودrdquo;.

لقد ركزت ضغوط اللوبي اليهودي طوال السنوات الماضية على هدف اضعاف مصر عسكرياً، والحرص على استمرار تمتع ldquo;إسرائيلrdquo; بالتفوق العسكري النوعي على الدول العربية مجتمعة، وهو هدف جرى التركيز عليه، بعد حرب أكتوبر 1973 مباشرة، بتطوير نوعيات السلاح ldquo;الإسرائيليrdquo;، وبدعم مكثف من الولايات المتحدة.

ورغم القرار الصادر عن مجلس النواب بتعليق جزء من المعونة العسكرية لمصر، فإن حكومة بوش تحاول تجميده، إدراكا منها، أن مصر كانت وستظل في المستقبل، حجر الزاوية في استقرار المنطقة، في وقت تعاني فيه الولايات المتحدة، متاعب تمس وضعها وسمعتها وصدقيتها في المنطقة، بسبب عدم انحيازها للعدالة في النزاع ldquo;الإسرائيليrdquo; الفلسطيني، وتعثرها في حرب العراق.

فالقانون الأمريكي يسمح للرئيس الأمريكي بتقديم وزير خارجيته طلبا إلى الكونجرس، بتعليق تنفيذ القرار، مقترنا بشهادة بأن تنفيذه يلحق ضررا بالأمن القومي للولايات المتحدة. ويظل التعليق مستمرا لفترة ستة أشهر تتجدد بتقديم هذه الشهادة من وزارة الخارجية.

وهو نفس ما حدث عندما اتخذت حكومة كلينتون عام 1999 موقفها بتعليق قانون نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ومازال تعليق القانون معمولا به حتى الآن.

إن المعنى الذي يحمله قرار مجلس النواب، هو رسالة موجهة إلى مصر، بأن المعونة التي تقدم لها صارت معونة بشروط، وليس كما كان عليه الحال، حين كانت تتجدد سنويا بقرار من الكونجرس.

وإذا كان قد راج اعتقاد في السنة الماضية، بأن الحكومة الأمريكية قد تراجعت عن مطلبها السابق للحكومات العربية، بالإصلاح السياسي، وربطت مطلبها بقراراتها الدبلوماسية والاقتصادية، فإن هذه النظرة تقتصر على جزئية من الصورة، وليس الصورة كلها.

صحيح أن مراجعات قد جرت داخل الحكومة الأمريكية، تمحورت حول سؤالهم: ما قيمة الديمقراطية إذا كانت ستجلب لنا حكومات لها سياسات مضادة للولايات المتحدة؟

لكن السياسة الأمريكية ليست ذات البعد الواحد، إنما تحكمها عدة أبعاد. فإلى جانب هذه المراجعات، يوجد البعد الخاص بنتائج مناقشات استمرت ثلاث سنوات من عام ،2003 داخل قطاعات مشاركة في صنع السياسة الخارجية، حددت مفهوما متطورا لمصادر تهديد الأمن القومي، يقوم على أن غياب الديمقراطية، هو المصدر الأصلي لهذا التهديد، لأن غيابها هو الذي يولد الإرهاب والعنف. وفي هذا تعديل للمفهوم الذي صاغه المحافظون الجدد القائل إن الإرهاب الإسلامي هو العدو ومصدر التهديد للأمن القومي.

هذه النتيجة أسفرت عنها مناقشات ثلاث سنوات، تدعمها نتائج استطلاعات الرأي العام، وهو ما أوجد عنصر ضغط لتحريك سياسة الضغوط من أجل الإصلاح السياسي وغيره، في مجالات أخرى مثل الكونجرس، وليس عن طريق السلطة التنفيذية.

وسيظل هذا التوجه يلعب دوره في السياسة الخارجية، إن لم يكن من خلال القناة الرسمية للحكومة، فمن خلال قنوات أخرى شريكة في السياسة الخارجية.

ويبقى ان موازنة هذه الضغوط في عصرنا هذا، لم تعد لها من وسيلة سوى سياسات التقدم الاقتصادي الذي يحقق الاكتفاء الذاتي في سلع حيوية يمثل استمرار الاعتماد على استيرادها نقطة ضعف مثل القمح، وسوى ايقاظ مشاريع التنمية والبناء الداخلي في الزراعة، وفي الصناعة، والبحوث العلمية المتقدمة، وذلك كله يرتبط بالديمقراطية، وهو شيء فعلته الهند، واستطاعت به أن تعدل من مسارات السياسة الخارجية الأمريكية، وتحدث التوازن فيها الذي أصبح يقوم على مفهوم المصالح المتبادلة.