خيري منصور

عندما قال جان جاك روسو ان الظلم والفقر لا يخلقان لدى المصاب بهما أي حافز للتغيير إذا لم يكن هناك وعي بهما، كان أول من فك الارتباط الوهمي بين عربة عاطلة وحصان أعمى.

فالظلم والفقر وكل محاصيل الشقاء كانت توائم للبشر منذ ولادتهم على سطح هذا الكوكب. ومرت عهود تأقلم الناس فيها مع الشروط التي تحاصرهم، وهذا ما يفسر الأمثال السلبية التي تعني الانسحاب، وشلل الإرادة، من طراز على قدر فراشك مدّ ساقيك، أو الكف لا تلاطم الخرز، أو ضع رأسك بين الرؤوس.

فالظروف الموضوعية وحدها ومهما بلغت من القسوة، لا تكفي لتحفيز الإنسان على البحث عن خلاص مما هو متورط فيه. وشرط الوعي الذي تكلم عنه روسو بوضوح، وبهاجس تنويري كان له عظيم المفعول في الثورة الفرنسية، غالباً ما يغيب عن معاصرين لا يرون من المشهد إلا سطحه، ولا يملكون القدرة على ترجمة الصمت العميق المفعم بالأسى الذي يرشح من عيون الضحايا.

والوعي ليس على الدوام إيجابياً، ومفارقاً للسائد، إنه أحياناً سالب، وسلاح معكوس، وحين تتبنى الضحية أفكاراً ومفاهيم صاغها لها الجلادون فهي تمارس الانتحار وهي آخر من يعلم.

وقد تكون أطروحات مالك بن نبي المفكر الجزائري ود. فرانز فانون الإفريقي من المارتنيك في ذروة الأهمية قدر تعلقها بهذا السياق. فقد قال فانون في كتابه الشهير ldquo;المعذبون في الأرضrdquo; والذي كتب مقدمته جان بول سرتر بانحياز كبير لأفكار فانون، إن المستعمر قد يرحل مادياً ولكنه يمكث في المستعمرات من خلال المستوطنات الذهنية والفكرية التي زرعها في وعي الضحية، لهذا لا يكون الاستقلال بمجرد رفع راية وعزف نشيد، انه من صميم الوعي، وإذا لم يتحقق على صعيد الوعي والمفاهيم ومجمل الثقافة فإنه يبقى زائفاً ومؤقتاً، وشكلياً.

وقد يندهش البعض ممن يقدمون الاحصاءات والأرقام حول التخلف والتبعية والارتهان السياسي من لا مبالاة الشعوب بهذه الاحصاءات، رغم أنها تخصها، بل هي سر تخلفها وشقائها، الحقيقة ببساطة هي أن هذه المعرفة الموضوعية لا تقترن بتثقيف يحرر الوعي من استلابه لهذا تبقى مجمدة، ومجرد سجال يدور في أروقة أكاديمية أو ندوات تنتهي بمثل ما بدأت به.

لا يكفي أن تقول النخب التي انتدبت نفسها لتمثيل الوجدان والنطق باسم الضمير إن الواقع رديء، وإن التخلف قائم، ويتصاعد لأن هذه التوصيفات ليست معزولة عن الفاعل وليست منسوبة إلى غائب بلا ملامح أو هوية، من هنا فإن الكلام رغم الإفراط في استخدامه من خلال الصحافة والتلفزيون أصبح منزوع الدسم والفاعلية، لأنه يراوح بين قوسين ولا يخترق أحدهما باتجاه التسبيب ووضع النقاط على الحروف.

ولو أخذنا ما يحدث في عالمنا العربي منذ عدة عقود مثالاً، لاتضح لنا أن الواقع اندفع إلى أقصى ما يمكن تخيله من استنقاع ورداءة وتيه.. لكن هذا كله لم يؤد إلى حراك ذي جدوى، لأن الوعي به أقل بأضعاف من حجمه الكارثي.

والمريض الذي لا يعي مرضه وأسبابه سينتهي حتماً إلى الهلاك، والأطباء الذين يخفون عن مرضاهم خطورة أوضاعهم لا ينكثون فقط بقسم أبوقراط بل ان ما يقترفونه بحق مرضاهم جرائم قتل مع سبق الإصرار، حتى لو لم يكن هناك ترصد.

وهذا بالضبط ما تقترفه النخب العربية الآن، وهي تتواطأ مع أسباب الوباء، وتحتفظ لنفسها باحتياطي يضمن بقاء مصالحها.