حسن حنفي

إذا كان الوطن مستباحاً في العراق وفلسطين وأفغانستان بالغزو المباشر، وفي الصومال بغزو دولة جوار بمساعدة الولايات المتحدة الأميركية، وفي السودان بتدخل مجلس الأمن, فإن الوطن مستباح أيضاً في لبنان بتدخل القوى الأجنبية فيه. تتسابق على حل أزمته واقتراح حلولها والتهديد بالكشف عن المسؤول عن إطالتها من فرنسا وأميركا خاصة، وكان السؤال: أين الوطن؟ أين لبنان؟ أين اللبنانيون شعباً وساسةً؟ ولماذا يُترك لبنان نفسه جثة هامدة، بطنه وقلبه مفتوحان يُشرّحهما كل جراحي العالم كما يشاؤون؟

هناك فرق بين الاختلاف والخلاف. الاختلاف فضيلة، والخلاف رذيلة. الاختلاف محمود، والخلاف مذموم. الاختلاف نعمة، والخلاف نقمة. الاختلاف شرعي، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً)، (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) quot;اختلاف الأئمة رحمة بينهمquot;، quot;لا تجتمع أمتي على ضلالةquot;، وغير ذلك من الأدلة النقلية. أما الخلاف فتفرق وتمزق، (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ). وهو ما وقع فيه اليهود والنصارى من قبل. الاختلاف طبيعي، اختلاف الألوان والألسنة والقبائل والشعوب والمشارب، (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ)، الطير والحيوان والإنسان والأرض والجبال والسماء في تناسق وانسجام. عشقه الفنانون والصوفية والأدباء. أما الخلاف، فإنه دفع الاختلاف إلى حده الأقصى، حد التنافر والتعارض والتناقض والإقصاء المتبادل.

الاختلاف طرف مقابل للوحدة كما عبّر عن ذلك الفلاسفة في الوحدة والاختلاف كأحد مظاهر الوجود. فلا اختلاف بلا وحدة، وإلا كان خلافاً وتفرقاً وتشيعاً. ولا وحدة بلا اختلاف، وإلا كانت صورية فارغة مجدبة. الوحدة والاختلاف قرينان، كقطبي الرحى، كالشمس وأشعتها، والوطن وأبنائه، والأسرة وأفرادها، والجسد وأعضائه، والشجرة وفروعها، والسماء ونجومها. وإذا كانت غالبية نظم الحكم العربية تعاني من الوحدة دون الاختلاف بفعل سيطرة الحزب الحاكم الأوحد، فإن لبنان وحده يعاني من الاختلاف دون الوحدة، عدم سيطرة أحد على أي أحد. كل لبناني هو لبنان وليس لبنان هو كل لبناني.

يُعاني لبنان من الطائفية. ولم تفلح محاولات المجتهدين والمصلحين، بل والحرب الأهلية المريرة التي دامت خمسة عشر عاماً وراح ضحيتها عشرات الآلاف من الشهداء، في تحويل الطائفية إلى مواطنة. حتى في اتفاق الطائف. فمازال اللبناني مارونياً أو مسلماً أولاً ثم لبنانياً ثانياً. وتتفرع كل طائفة إلى مذاهب. المسيحيون مارونيون وكاثوليك وأرثوذكس وبروتستانت. والمسلمون سنة وشيعة ودروز. مع أن لبنان منذ فجر النهضة العربية الأولى، هو الذي شق طريق العلمانية والعروبة، لغة وهوية.

ويعاني لبنان من الحزبية القاتلة التي تقوم أيضاً على أساس طائفي، quot;حزب اللهquot; شيعي، وحزب quot;الكتائبquot; ماروني، والتيار quot;الوطني الحرquot; مسيحي، والحزب quot;التقدمي الاشتراكيquot; درزي، وتيار quot;المستقبلquot; سُني. ولكل حزب زعيم وطني يتوحد بالحزب والطائفة في الباطن، ويسعى لإنقاذ لبنان في الظاهر، (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). الحزب جماعة مؤلفة، والوطن فضاء مفتوح. الحزب مصلحة خاصة، وللوطن مصالحه العامة.

كل حزب يدعي أنه quot;الفرقة الناجيةquot; هو الوحيد الناجي والأخرى ضالة هالكة. هو الوحيد في الجنة والباقون في النار. كل منها يُنكر الآخر في إقصاء متبادل، وكأن لا شيء يربطها معاً وهو لبنان، وطن الجميع. زعيم كل حزب هو البطل الأوحد، والآخر هو الخائن العميل بصرف النظر عن موقعه، في الموالاة أم في المعارضة. كل منها يدفع نفسه إلى الحد الأقصى ويطالب به. فاتسعت الهوة بينها، واتسمت كلها بالتطرف. وغاب الحوار. لم تعد هناك قواسم مشتركة أو حد أدنى من المبادئ يمكن أن يشكل برنامجاً وطنياً للخلاص، تقوم بتنفيذه جبهة وطنية من كل الأحزاب أو ائتلاف وطني عريض يمثل الجميع. بل إن quot;الشهابيةquot; التي استطاعت أن تتجاوز الأحزاب المتصارعة يصعب إعادتها في عصر يسوده الاستقطاب في كل شيء: سلفيون وعلمانيون، تابعون ومستقلون، أميركيون وإيرانيون، فرنسيون وسوريون. غاب الحوار بين أبناء الوطن الواحد. (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ). وتحولت الخصومة في السياسة إلى خصومة في الوطن. وانقسمت البلاد بين موالاة ومعارضة. وأصبحا وطنين نقيضين. وعاد شبح الحرب الأهلية من جديد، ليس قتالاً بالسلاح، بل خلافاً في السياسة، لأن الحرب الطائفية وإن انتهت على الأرض إلا أنها بقيت في النفس.

وبدلاً من أن تكون الأكثرية والأقلية ظاهرة صحية ودليلاً على الديمقراطية، اليوم الأكثرية وبالأمس أقلية، وبالأمس أكثرية واليوم أقلية، تحولت إلى ظاهرة مرضية بين السلطة والمعارضة. واختلف الخصمان في الوطن، أو الإخوة الأعداء، على كيفية تحقيق الأغلبية، النصف زائد واحد كما يريد الغرب؛ أي أوروبا وأميركا طبقاً للتصور الكمي للديمقراطية quot;صوت واحد لرجل واحدquot; أو الثلث الضامن كما تريد المعارضة حماية للكيف من طغيان الكم،وأغلق البرلمان بعد انسحاب المعارضة من الحكومة ومنه. واغتيل نواب من الموالاة حتى تتحول الأكثرية إلى أقلية حتى بسفك الدماء واغتيال الأبرياء. وتأجلت جلسات انتخاب رئيس الجمهورية عشرات المرات بعد جهد جهيد في البحث عن رئيس توافقي لخلاف على آليات تعديل الدستور أو على البرنامج السياسي للحكومة وللرئيس، وضعاً للعربة أمام الحصان.

تمت التضحية بالدولة في سبيل الحزب، وبالوطن من أجل السياسة، وبالموضوعية من أجل ذاتية الأفراد. وقديماً عزلَ عمر بن الخطاب خالد بن الوليد القائد المغوار لجيوش المسلمين لافتتان الجند بشجاعته وجعله مجرد نفر. وعيّن مكانه أبا عبيدة بن الجراح. فما فتّ ذلك في عضد القائد. فكله جهاد في سبيل الله بصرف النظر عن الموقع، قائداً أم جندياً. ليس المهم هو السلطة، بل خدمة الشعب. تمت التضحية بالوطن من أجل الحزب، وبالصالح العام من أجل الصالح الخاص. وأصبح الكل هو الخاسر، الحزب والشعب، والدولة والوطن.

لم يأبه اللبنانيون بصورتهم عند أنفسهم، التي تتمثل في الشقاق والخلاف والنزاع، وأصبح كل لبناني في الاتجاه المعاكس. ولم يأبهوا بصورتهم عند العرب، ولبنان عقل العرب، وكتاب العرب، وجبال العرب وسهوله ووديانه. ولم يأبهوا بصورة العرب في الغرب، والتي لا تحتاج إلى مزيد من التشويه. فالعرب لا يعرفون الديمقراطية. وإن عرفوها لم يحسنوا أداءها. وتحولت إلى فوضى هدامة، اعتصام أمام البرلمان لمدة عام، منصب رئاسي شاغر، اغتيال أعضاء البرلمان، ورئيس الوزراء، وكبار الصحفيين والإعلاميين والعسكريين.

ضاعت عظمة لبنان أو كادت. وبعد أن كانت عقل العرب أصبحت خراب العرب. وضاعت المقاومة في الجنوب وتحقيق أول انتصار على الجيش الذي لا يقهر. شوهت صورة لبنان المقاوم، وتكسرت على أرض السياسة. فإن استطاع العرب مواجهة العدو في الخارج، فإنهم لا يستطيعون مواجهة نفوسهم في الداخل. نصر في الخارج وهزيمة في الداخل كما حدث في حرب أكتوبر 1973، الذي أضاع فيه السياسي النصر العسكري. فرض العرب على إسرائيل إرادتهم القتالية. وفرضت إسرائيل على العرب إرادتها السياسية.

لبنان في حاجة إلى اختراق سياسي، إلى تغير نوعي، إلى خيال سياسي، إلى بطل قومي، نابليون أو مصطفى كامل أو عبد الناصر ليتحول الوطن المهزوم إلى وطن منتصر. يملأ كرسي الرئاسة الشاغر.

بحق عيد الأضحى المبارك وعيد الميلاد المجيد، بحق محمد والمسيح، بحق لبنان المهجر، بحق المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، بحق دوره الحضاري، بحق فنه وشعره وثقافته، بحق جباله وسهوله ووديانه وبحره أن يخرج نفسه من الهاوية. فالعراق أولاً ولبنان ثانياً وفلسطين دائماً.