سليمان تقي الدين

عادت الأزمة اللبنانية إلى المراوحة عند نقطة انطلاقتها. الشراكة الفاعلة في السلطة والقرار هو مطلب المعارضة، تنطلق من أزمة الثقة بالفريق الحاكم للإصرار على ضمانات تكبح خياراته، تعتقد أن دعم الولايات المتحدة الأمريكية للحكومة ولفريقها يستهدف جعل لبنان قاعدة نفوذ أمريكية تسعى إلى تعطيل قوته في وجه ldquo;إسرائيلrdquo; وتستخدمه موقعاً معادياً لسوريا.

تستدل المعارضة على ذلك من التزام الحكومة وفريقها تنفيذ القرارات الدولية لا سيما القرار 1559 الذي يطلب نزع سلاح المقاومة، ومن مجمل سلوك هذا الفريق في حرب يوليو/ تموز 2006 وما تلاها، ومن التدخل الأمريكي اليومي المباشر وتحريضه من أجل رفض الشراكة الوطنية.

لا أحد طبعاً ينكر حجم المصالح الدولية والإقليمية المؤثرة في الأزمة لمعظم الدول الفاعلة سياساتها ومداخلاتها. هناك رعاية مباشرة وتمويل لبعض القوى والتيارات. لكن ذلك كله لا يجعل من جميع الفاعلين على سوية واحدة. شنت ldquo;إسرائيلrdquo; بقرار أمريكي حرباً على لبنان من أجل تطويعه.

جعلت وزيرة الخارجية الأمريكية (رايس) لهذه الحرب عنواناً هو ldquo;ولادة شرق أوسط جديدrdquo;. لو ربحت ldquo;إسرائيلrdquo; هذه الحرب لكانت معطيات كثيرة في المنطقة قد تغيرت. كانت الفوضى في لبنان قد اندلعت وبدأ الصراع على سوريا من بوابة لبنان. في مشهد كهذا يدخل المشرق العربي كله في عصر ما قبل الدولة، بل في عصر ملوك الطوائف والمذاهب والجماعات المتناحرة. لبنان في حرب يوليو/ تموز 2006 أقام جداراً حاجزاً بوجه موجة الفوضى. لكنه الآن يدفع ثمن ذلك ما هو أصعب من حروب الخارج، لقد فرضت الولايات المتحدة حال الانقسام الوطني وعطلت استعادة اللحمة الوطنية، نجحت في حصار المقاومة الوطنية بحملة سياسية وإعلامية خطيرة، شوهت ثقافة المقاومة وحملتها تبعات تلك الحرب، برّأت ldquo;إسرائيلrdquo; من عدوانيتها وأعفتها من مسؤولية الجرائم التي ارتكبتها، ثم جعلت من لبنان ساحة انقسام عربي وتنازع.

لم يخفِ النظام الرسمي العربي قلقه من النموذج اللبناني، وبدلاً من أن يستثمر تضحيات اللبنانيين في حواره مع أمريكا ساهم في هدر هذه التضحيات.

يشكو العرب على مختلف مستوياتهم ومسؤولياتهم من الحماية الأمريكية لدور ldquo;إسرائيلrdquo;، فهم مدعوون إلى الإفادة من كل ظاهرة مقاومة لجذب الاهتمام لحقوقهم وقضاياهم حتى لو كانت خارج منظورهم وتوجهاتهم، لكنهم من أسف يبالغون في تغليب تناقضاتهم استعطافاً لأمريكا لكن أمريكا تستدرج التنازلات وتذكي التعارضات في دائرة الموقف العربي، هي في لبنان لا تحسب حساباً لأية مصالح عربية، بل ان الضغوط عليه قد تؤدي الى تفكيك بنيته الوطنية وتحويله عبئاً ثقيلاً على العرب ومشكلة جديدة تضاف إلى مشاكلهم، ولبنان نموذج وشاهد يحتاجه العرب لإظهار قدرتهم على العيش معاً بين الأديان والمذاهب والثقافات وللحوار بين القوى والتيارات السياسية والفكرية فإذا سقط لبنان مجدداً بالفوضى تحقق ldquo;إسرائيلrdquo; هدفاً مركزياً لها بتبرير شرعية نظامها السياسي القائم على العنصرية الدينية، وهي الآن تطالب العرب بأن يعترفوا بأنها كيان يهودي صرف. وتحقق ldquo;إسرائيلrdquo; حلمها الأكبر بإسقاط الهوية العربية عن محيطها ودفعه في طريق النزاعات الطائفية والمذهبية والاثنية وتحطيم كياناته الوطنية القائمة.

هذه المخاطر لم تعد ضرباً من الخيال السياسي، ولا هي فرضيات ومجرد احتمالات، لقد سعت ldquo;إسرائيلrdquo; في حرب لبنان إلى إحداث تعديل ديمغرافي في صيغته وهي راغبة أصلاً في توطين الفلسطينيين في شتاتهم، وهي من يقلقها الوجود المسيحي في الشرق لأسباب دينية وسياسية، وهي من حاولت تدمير هذا الوجود.

لكن العراق يبقى خير شاهد على أن المجتمعات العربية لا تملك المناعة الكافية لضمان وحدتها إذا ما تعرضت لهزات عنيفة، وإذا ما تراخى حبل السلطة فيها. لا نريد من العرب الآن الكثير اذا ما طالبناهم أولاً بألا يكونوا شركاء في تعقيد الأزمات ولا سيما أزمة لبنان، وان يتخلوا عن أنانياتهم ومصالحهم السياسية الفئوية ومناكفاتهم لمصلحة إنقاذ وحدة لبنان وعدم تعريض سلمه الأهلي للخطر. لبنان في كل الظروف والأحوال لن يكون دائرة نفوذ لدولة واحدة أو محور، ولن يحكم من فريق سياسي واحد. وستظل توازناته الداخلية تحمي تعدديته السياسية والثقافية وترعى مصالح جميع الفرقاء وتحفظ مواقع جميع مكوناته. ان تشجيع التسوية الآن وتحقيق الشراكة هو كسب لجميع العرب وليس انتصاراً لفريق وهزيمة لآخر. لكن الفوضى خسارة عربية إجمالية صافية.