عبد المنعم سعيد

منذ سنوات بعيدة، عرض فيلم أمريكي باسم laquo;إنهم يقتلون الجياد أليس كذلك؟raquo; بطولة النجمة جين فوندا، ذاع صيته وحاز عددا من الجوائز؛ وكان موضوعه عملية سباق للجري في دائرة واسعة لها جائزة كبرى تكفي لكي تسيل لعاب كل محتاج ومغامر. وأثناء السباق الذي أقبلت عليه كثرة، تساقط الواحد وراء الآخر إعياء أو موتا بينما القائمون عليه يستمرون في المتاجرة بالمتسابقين فيه مهما كانت الكوارث الإنسانية التي تحل بهم. وأيامها كان الفيلم تعبيرا عن موجة في اليسار الأمريكي تدين ما هو معروف بالرأسمالية laquo;المتوحشةraquo; التي لا تتورع عن المتاجرة بالبشر وتحولهم الى جياد تستنزف طاقتهم فإذا ما حل بها التعب وجب إطلاق النار على رؤوسهم. تذكرت هذا الفيلم بينما أتابع حملة ونتائج أول الانتخابات التمهيدية الأمريكية في ولاية أيوا، والاستعداد للجولة التالية لها في ولاية نيوهامبشاير. فبعد عام أو أكثر من الاستعداد والدعاية والسباق في العموم وصل المرشحين في الحزبين الديمقراطي والجمهوري الى أول محطات الاختبار الحقيقية، وبعدها سوف يدخلون الى سلسلة من المحطات تتم في خمسين ولاية أمريكية يتعرضون فيه لامتحانات قاسية لا بد منها قبل الوصول الى البيت الأبيض في 1600 شارع بنسلفانيا بمدينة واشنطن العاصمة.

وبالنظر الى هذه المسيرة فإنها تبدو واحدة من أهم مميزات المجتمع الأمريكي، والتي يتفوق فيها حتى على مجتمعات متقدمة أخرى حيث تجري أكبر عملية في التاريخ لإعداد القيادات السياسية لأهم المناصب في البلاد. والحقيقة أن العملية لا تبدأ بالمرشحين وحدهم ولكن تبدأ بالبلاد كلها استعدادا لتلك اللحظة التي تتغير فيها الخيارات السياسية للدولة؛ فقبل عامين أو أكثر من الانتخابات الرئاسية الجديدة، والتي تتضمن بالضرورة انتخابات للكونجرس أيضا، تبدأ مراكز البحوث في الجامعات والمنظمات الأهلية في طرح برنامج أو برامج للرئيس الجديد. وفي نفس الوقت فإن الولايات الخمسين تأخذ في التنافس في ما بينها في شكل ومضمون اختيار مرشحيها للرئاسة حيث تختلف كل ولاية عن الأخرى في طريقة الاختيار والتصويت عليه، ويصبح على المرشح أن يتعرف على كل هذه النظم بينما يقوم في نفس الوقت بالتعرف شخصيا على المشكلات الخاصة بكل ولاية والإقليم الذي تنتمي اليه. وضمن هذه العملية لا يجري إعداد المرشح وحده وإنما طواقم كبرى متخصصة في كل السياسات تقريبا، فضلا عن قدراتها التنظيمية، وهي التي سيكون لها المناصب الكبرى إذا ما كان للمرشح نصيب وحظ في الفوز.

وفي انتخابات هذا العام لم يختلف الأمر كثيرا من حيث الشكل عما كان في الحملات الانتخابية السابقة؛ ولكن من حيث المضمون، فإن الأمر يختلف كثيرا ليس فقط حسب نوعية المرشحين وإنما أيضا في طريقة إعداد الناخب نفسه فربما لم يحدث في التاريخ من قبل أن أصبحت قدرته فائقة الى هذا الحد للتعرف على المرشحين باستقلالية تامة من خلال الشبكة الدولية للمعلومات التي لا تعرض فقط سجل حياة وإنجازات المرشح، وإنما أيضا مواقفه وتصويته ـ إذا كان عضوا بالكونجرس أو في مجالس منتخبة ـ وإنجازاته إذا كان حاكما لولاية أو تولى مناصب تنفيذية من نوع أو آخر. ويتم ذلك كله في إطارات مقارنة وتحليلية تتيح للناخب القدرة على اتخاذ القرار الذي يتمشى مع مصالحه، ويحيد الى حد كبير تأثيرات الإعلام والحملات الإعلانية. ولذلك لم تكن هناك صدفة أن مايك هكابي الذي كان في مؤخرة المجموعة الجمهورية المرشحة للرئاسة قد حصل على 34% من الأصوات في ولاية أيوا بينما لم يحصل فارس المقدمة مت رومني إلا على 25% وهو الذي أنفق أضعاف الأول وتمتع بآلة دعائية خرافية، بينما لم يحصل جون ماكين عضو مجلس الشيوخ المعروف والشهير في السياسة الأمريكية ومعه النجم السينمائي فريد طومسون والحاكم السابق إلا على 13% فقط من الأصوات. وفي الجانب الديمقراطي جاءت المفاجأة بفوز باراك أوباما المرشح من أصول أفريقية بالمركز الأول وبنسبة 37% متفوقا بذلك على جون إداوردز الذي كان مرشحا سابقا كنائب للرئيس، وعضوا في مجلس الشيوخ والذي حصل على 30%، وحتى على هيلاري كلينتون التي كانت متصدرة في الدعاية والإنفاق واستطلاعات الرأي العام والتي جاءت في المركز الثالث بنسبة 29%.

وبالطبع فإن السباق لا يزال في بدايته، والاختبارات لا تزال مستمرة، فما جري في أيوا، وما حدث في نيو هامبشير ليس إلا جزءا من عملية صهر للحديد وإعداد للجياد التي ستقود أمة بأكملها. فالأمريكيون يعلمون تماما أن القمة ليست سهلة بالمرة، وحتى رغم كل التحضيرات والتجهيزات والصهر والإعداد فإنه من الممكن أن يحصلوا على رئيس للجمهورية أقل من المنصب، أو أن يخطئوا هم أنفسهم في الاختيار. ولكن كل ما يصبون اليه من هذه العملية المعقدة هو تقليل فرص الخطأ، وإعطاء فرصة أكبر للأفضل من القيادات، وربما يكون الحظ مواتيا فيكون بعض هؤلاء الأفضل من العظماء الذين يدخلون التاريخ من أوسع أبوابه لأنهم غيروا أمريكا الى الأفضل أو حتى غيروا العالم كله سياسيا أو اقتصاديا.

وبينما يوجد في معظم الدول الصناعية المتقدمة عمليات مماثلة، إلا أن أيا منها لا يرقى الى مثل هذه الكثافة في الإعداد والصهر؛ وهي عملية لا يوجد لدينا في العالمين العربي والإسلامي مثيل لها حيث تضيق عملية اختيار القيادات الى أدني حد، ولا يوجد الكثير الذي يعد القيادات إعدادا حقيقيا. ولو ضربنا مثلا بباكستان على سبيل المثال لوجدنا أن الاختيارات الباكستانية ضيقة للغاية فهي تدور بين قيادات إقطاعية توارثت السلطة والتأثير والتوجهات والسياسات، وبعد سنوات طويلة فإن بقاء بنظير بوتو ونواز شريف على رأس حزبي الشعب والرابطة الإسلامية رغم الإخفاقات السياسية، وتوريث هذه القيادات كما جرى لابن السيدة المغدورة كان مؤشرا على ضعف ساحة الاختيار بين القيادات وتهافت أساليب اختيارها. أما البدائل لهذه القيادات فهو لا يزيد عن العسكر الذين ينحصرون بين قائد الجيش ورئيس أركانه وعملياته، وعن قيادات الجماعات الإسلامية المختلفة التي تسيطر عليها فكرة السمع والطاعة الى الدرجة التي لا تتيح فرزا حقيقيا للقيادات.

هذه الحالة بالتأكيد ليست باكستانية فقط بل تكاد تكون هي السمة المسيطرة على كل قيادات العالم العربي والإسلامي، ودول العالم الثالث في العموم، حيث الساحة ضيقة والاختيارات محدودة؛ هذا بالطبع إذا كان هناك اختيار على الإطلاق أو إذا حدث فإنه يكون اختيارا ما بين الرمضاء والنار. فالقيادات التقليدية المستندة الى القبلية أو الإقطاع الاقتصادي والسياسي، والعسكر، وقيادات الإسلام السياسي هي المكون للسياسة، وهي فضلا عن فقر إعدادها في العموم من حيث التعرف على مشاكل البلاد ومعضلاتها، أو من حيث السياسات التي تتعامل معها، فإنها تري العلاقات فيما بينها ذات طبيعة صفرية يحكمها الصراع وحد السيف والبندقية والعصبية الخلدونية في العموم. مثل هذه الحالة السياسية لا تحرم العالمين العربي والإسلامي فقط من التقدم وإنما أيضا تحرمه من اختراق ساحات جديدة للتقدم الإنساني. فلو نجح باراك أوباما واستمر في مسيرته بعد أيوا فإن ذلك سوف يكون علامة فارقة أن ينجح إنسان له أصول أفريقية في الوصول الى البيت الأبيض وهي مفارقة هائلة مع التاريخ العنصري للولايات المتحدة. ولكن مثل ذلك ـ إذا حدث ـ لن يكون اختيارا للخلاص من تهمة العنصرية ولكن لأن أوباما خريج جامعة كولومبيا وهارفارد هو الذي يستحق منصب الرئاسة بحكم ما لديه من أفكار وسياسات استلهمها من إعداد النظام السياسي والمجتمع له. وللأمر تفاصيل كثيرة سوف نوردها في قادم المقالات وكلما كان ذلك ضروريا.