علي محمد فخرو

في ملاحظة مركّزة يصف المفكر البريطاني quot;جون جريquot; صورة كالحة لما وصلت إليه المجتمعات الغربية: quot;يستطيع الأغنياء أن يمضوا طيلة حياتهم دون أي اتصال أو ملامسة بالآخرين في مجتمعاتهم. وطالما أن الفقراء لا يكوّنون أي تهديد للأغنياء فسيتركون لحالهم. وكثمن لهذا السلام بين الأغنياء والفقراء استعيض عن نظام الديمقراطية الاجتماعيةquot;.

هكذا انتهت جهود وتضحيات ونضالات أربعة قرون إلى هذا الكابوس في حضارة غربية تقفز قفزات مذهلة في عالم التكنولوجيا والاستهلاك المادي والترفيهي النّهم بينما شيئاً فشيئاً تنطفئ أنوارها وتموت روحها وتخفت أصوات بشائر التقدم الإنساني في حنجرتها، وترهن مستقبلها في يد حفنة من الأغنياء. نهاية مرعبة بائسة، فهل نستطيع أن نتعلم من عِبرها؟ أخشى أن الجواب سيكون بالنفي. فبعض أغنياء العرب، يسيرون بخطى ثابتة نحو جعل مجتمعاتهم تعيش نفس الظاهرة:

أسفارهم في طائرات خاصة مملوكة أو مستأجرة، أو فوق يخوت خاصة تعبر البحار والمحيطات من مرافئ خاصة إلى مرافئ خاصة أخرى. مجمّعاتهم السكنية داخل أسوار عالية محميّة بعيون الكاميرات. أولادهم يدرسون في مدارس خاصة غالية الأقساط ومنقطعة الجذور الثقافية مع محيطها. مشترياتهم من عواصم العالم الكبرى، ورعايتهم الصحية في أجنحة فندقية داخل مستشفيات خاصة يستدعى للقيام بها أكبر وأغلى اختصاصيي العالم، وفي أماكن عملهم لهم مواقف خاصة لسياراتهم، وأبواب ومصاعد خاصة لدخول مكاتبهم وألف سكرتيرة وحارس يكشُّون عنهم ذباب المتطفلين. واتصالهم بالعالم من خلال شاشة الكمبيوتر أو خط التلفون أو الشركات الخدمية، وأوقات تسليتهم في نوادٍ خاصة حيث يشربون ويأكلون ويمارسون الرياضة، ويمرحون في أجواء خاصة بهم وبطبقتهم.

هؤلاء وأولادهم وأحفادهم لن يشاهدوا قط منظراً مؤذياً، ولن يسمعوا قط أنين فقير أو يتيم أو أرملة، ولن يمروا قط في شارع يموج بالمظاهرات والاحتجاجات والمطالب، ولن يشعروا بزيادة أسعار الغذاء والملبس والسكن والسفر، ولن يلامسوا جموع العاطلين والمهمّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّشين والمتسكّعين وضحايا الهجرة غير المشروعة. نعم سيرون وسيشعرون بكل ذلك من خلال شاشات التلفزيون، ولكن ستضيع معاني كل ذلك في زحمة برامج التسلية والفكاهة والإثارة.

ليست تلك الصور روائية، بل هي تحفر بعمق في الواقع العربي، إنها نقيضة لما سارت عليه الحياة الاجتماعية العربية عبر القرون. في الماضي كان علية وأغنياء القوم يتعلمون في مدارس العامّة ويتعالجون في مستشفياتهم ويسافرون معهم وينضمون إلى نواديهم ويزورون متاجرهم وبيوتهم. وهذا الانقلاب المفاجئ يشير إلى أننا مقبلون على شرخ كبير في العظم الاجتماعي العربي. هذا الشرخ لن يؤدّي فقط إلى استقطاب مجتمعي في الثروة، حيث ستتواجه قلة بالغة الثراء مع كثرة بالغة الفقر والعوز، وإنما إلى استقطاب ثقافي حاد. فالبعد الجغرافي في المدينة الواحدة، الذي تكرِّسه هندسة الخوف المعمارية في أشكال الأسوار العالية والقضبان الحديدية المحيطة بالشبابيك والنوافذ وكاميرات الإنذار والتجسُّس، وغياب التواصل البشري الاجتماعي اليومي، وهيمنة ثقافة العولمة وولاءاتها على عقول وقلوب أصحاب الثروة. كل ذلك سيؤدي إلى تكون نوعين من المواطنين. سيكون هناك مواطنو المال ومواطنو الوطن. أمام الشرخ الاقتصادي في حياة المجتمعات العربية، الذي يتسع ويكبر، والشرخ الثقافي، الذي هو في سيرورة الترسخ، سيكون الحديث عن السلام الاجتماعي، في ظل ديمقراطية اجتماعية عادلة، نوعاً من الهذر والأحلام المستحيلة. في مثل هكذا مجتمع لن توجد لغة مشتركة وستكون للقيم معانٍ مختلفة ونسبيّة عند مختلف مكونات المجتمع، وستنحر العدالة على مذبح هذا الشرخ الاقتصادي- الثقافي. من أجل تجنّب الانزلاق في جحيم ما يعرف بالكسر الاجتماعي على أغنياء العرب أن يصبحوا مواطني الوطن لا مواطني المال الذي تنادي به بقوة ثقافة رأسمالية العولمة المتوحّّّشة.