حمزة قبلان المزيني

تناقلت الجوالات مساء الثلاثين من ديسمبر الماضي ومساء الحادي والثلاثين منه نكتة تقول ـ في إحدى صيغها الكثيرة: quot;أعلن الفاتيكان أنه لم تثبت هذه الليلة رؤية هلال شهر يناير وأن غدا هو المتمم لشهر ديسمبرquot;!

وجاءتني هذه الرسالة أكثر من مئة مرة. ولم تكن هذه السنة الوحيدة التي انتشرت فيها، فقد جاءتني بالصيغ نفسها العام الماضي، في هذا الوقت، وفي السنة التي قبلها كذلك.

والقصد من هذه النكتة ـ السمجة ـ هو السخرية بالطريقة التي يتبعها المجلس الأعلى للقضاء في إثبات رؤية هلال الأشهر القمرية وهي الاقتصار على قبول شهادة من يشهد بأنه رأى الهلال بالعين المجردة.

وكانت quot;الوطنquot; قد نشرت لي مقالا تحدثت فيه عن مؤتمر عن الأهلة عُقد في أبوظبي العام الماضي حضره عدد كبير من المتخصصين في علم الفلك والمتخصصين في الشريعة. وأشرت إلى أن نقد الطريقة التي تقتصر على قبول شهادة الرؤية البصرية المجردة يكاد يكون الموضوع المشترك بين كثير من المشاركين في المؤتمر. بل وصل الأمر إلى أن يسخر بعض المحاضرين من هذه الطريقة. وأكثر ما كان يؤلمني أنه كان واضحا أن هذه السخرية موجَّهة ـ من طرف مباشر أو خفي ـ إلى المملكة خاصة.

وقد استضاف برنامج quot;بلا حدودquot;، الذي تبثه قناة الجزيرة، مساء الأربعاء الماضي، الدكتور محمد عودة، المشرف على quot;المشروع الإسلامي لرصد الأهلةquot;. وكانت نغمة السخرية حاضرة في أسئلة مقدم البرنامج، لكن الدكتور عودة لم يشارك فيها. وأوضح الدكتور عودة، والذين شاركوا عن طريق الاتصال بالبرنامج، قضية إثبات الأهلة بالطرق العلمية الحديثة بصورة جلية مقنعة.

وربما لا يمكن لوم الذين يطلقون هذه النكتة لأنها تمثل استفتاء حقيقيا على استنكار الناس للاقتصار على استخدام هذه الطريقة التي توقعنا دائما في الخطأ الذي ينتج عنه الاضطراب في تحديد بدايات المناسبات الدينية الإسلامية ويتسبب في اختلاف الدول الإسلامية فيها.

ويلفت النظر الإحصاءات التي أوردها الدكتور عودة على نسبة الأخطاء الكبيرة غير المقبولة في إثبات أوائل الشهور القمرية بالرؤية البصرية المجردة في المملكة والأردن وسوريا. وتبين تلك الإحصاءات أن نسبة الخطأ تبلغ أكثر من ستين في المئة في سوريا والأردن، أما في المملكة فأكثر من ذلك بكثير.

ويوقعنا التسرع في قبول شهادة quot;الواهمينquot; الذين يشهدون بأنهم رأوا الهلال على الرغم من عدم إمكان رؤيته في بعض المآزق. ومن هذه المآزق أن إثبات دخول الشهر السابق خطأ يقود إلى مشكل في تحديد بداية الشهر اللاحق.

ومن الأمثلة على ذلك أن شهر رمضان المبارك 1428هـ، أُدخل اعتمادا على إكمال شهر شعبان ثلاثين يوما. ولم تكن بداية شهر رجب صحيحة لأنها لم تكن تتوافق مع الحقائق الفلكية للقمر في تلك الليلة، وأن دخول شهر شعبان لم يكن مؤكدا لأن أحدا لم يتقدم بالشهادة برؤية الهلال.

وكانت بداية شهر شوال خطأ لأن الهلال في الليلة التي شهد بعض الشهود برؤيتهم له غاب متزامنا مع الشمس أو قبلها بقليل. وتسبب هذا في الاضطراب في تحديد تاريخ أيام شوال كله؛ ومن ذلك أن بعض الصحف السعودية ظلت تلتزم بتقويم أم القرى وبعضها بالتقويم بحسب الرؤية (وأرّخت صحيفة الرياض عدديها ليومي الثلاثاء والأربعاء بـquot;30 ذي الحجةquot;، مضيفة عبارة quot;أم القرىquot; بين قوسين، يوم الأربعاء)!!

وحدث الأمر نفسه في تحديد أول شهر ذي الحجة 1428هـ؛ فقد شهد عدد من الشهود quot;العدول!quot; بأنهم رأوا الهلال مساء الأحد مع أنه غاب في تلك الليلة قبل غروب الشمس باثنتين وعشرين دقيقة.

وكانت النتيجة الحتمية لهذا اضطراباً آخر لا علاج له. ذلك أن شهر ذي الحجة انتهى قبل نهايته الحقيقية!! وتوضيح ذلك أن شهر ذي الحجة لا بد أن ينتهي، بحسب الرؤية، يوم الثلاثاء لأنه اليوم المتمم للثلاثين من الشهر، وهو الحد الأقصى لعدد أيام الشهر الهجري، كما حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتتضح المفارقة إذا علمنا أن الاقتران الذي يتولد عنه هلال شهر المحرم حدث في الساعة الثانية وسبع وثلاثين دقيقة ظهرا بتوقيت المملكة يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من ذي الحجة، بحسب تقويم أم القرى، وغرب قبل الشمس بدقيقتين. ويعني هذا أن يوم الأربعاء الموافق 9 يناير 2008م ليس آخر يوم من ذي الحجة لأن الشهر لا يمكن أن يكون 31 يوما! كما أنه لا يمكن أن يكون أول المحرم لأن الهلال غاب قبل الشمس في الليلة السابقة.

ويتبين من هذا أن لدينا يوما ضائعا بين الشهرين، إذا اعتمدنا البداية الحقيقية لشهر المحرم 1429هـ، التي توافق الخميس العاشر من يناير 2008م، (ولم يعلن المجلس الأعلى للقضاء شيئا عن بداية المحرم حتى كتابة هذا المقال).

ويدخلنا هذا الاضطراب في دوامة سترافقنا إلى آخر السنة! كما سينشأ عنه خلاف في تحديد يوم العاشر من المحرم الذي يندب المسلمون لصومه، وهو ما سيدعو إلى الفتوى بصيامه مسبوقا بأيام التماسا لليوم الحقيقي واحتياطا لهذا الخطأ.

وكان إدخال شهر ذي الحجة 1428هـ خطأ موضوعا لكثير من الاعتراض والاستنكار في العالم الإسلامي. فقد نشر كثير من الصحف في العالمين العربي والإسلامي مقالات وبيانات كثيرة أصدرها كثير من العلماء في الشريعة والمتخصصين في علم الفلك تعترض على إدخال شهر ذي الحجة اعتمادا على شهادة لم تتوافق مع المعطيات الفلكية التي تنبأ بها المتخصصون بالحساب الفلكي وشهد بصحتها الذين رصدوا الهلال بالمناظير المقربة مساء الأحد ومساء الاثنين.

وكنت أشرت في مقال سابق إلى أنني كتبت وأكثرت، وكتب غيري وأكثر، في الدعوة إلى التوثق من بدايات الأشهر القمرية كلها، خاصة تلك التي تتصل بالعبادات الإسلامية الموسمية. لكن هذه الدعوات لم تلق آذانا صاغية من المجلس الأعلى للقضاء.

وكان المتوقع أن يبادر المجلس الموقر إلى مناقشة هذه القضية مع المتخصصين الموثوقين في علم الفلك، ومنهم سعوديون معروفون بالتمكن العلمي والعدالة، ومع المتخصصين في الدراسات الشرعية، ومنهم سعوديون، وبعضهم من أعضاء هيئة كبار العلماء في المملكة.

ولكي يكون الأمر واضحا فإن المتخصصين في الفلك والعلماء في الشريعة لا يطالبون بالاستغناء عن استخدام الرؤية بالعين المجردة، كما يحاول بعض الملبِّسين تصوير موقفهم. أما ما يطالبون به فلا يزيد عن أن تكون الرؤية صحيحة اعتمادا على التحديد الفلكي الصحيح لليلة التي تكون quot;مظنة للرؤيةquot;. يضاف إلى ذلك المبادرة إلى الاستعانة بالمناظير المقربة التي ستؤدي إلى الرؤية اليقينية بشكل أوثق مما ينتج عن الرؤية بالعين المجردة التي ربما تكون ضحية للوهم.

ومما يشير إلى أهمية هذا الأمر أن الرؤية بالعين المجردة الآن صارت أكثر صعوبة من ذي قبل. ويعود ذلك إلى نسبة التلوث الجوي التي تبلغ الآن حدودا تجعل منها أمرا يكاد يكون مستحيلا.

ومن الأدلة على ذلك المستوى من التلوث ما عرضته قناة ديسكفري العلمية قبل شهرين. فقد التقط أحد علماء المناخ صورا للجو في الولايات المتحدة في الأيام العادية فوجد أن أكبر عامل ملوث للجو هو الدخان الذي تنفثه الطائرات بكثافة مما يشكل غلالة من السحب التي تحجب زرقة السماء وتحولها إلى لون مغبر.

وقارن المتخصص نفسه الصور التي التقطها في الأيام التي سبقت يوم الحادي عشر من سبتمبر 2001م، الذي حدث فيه الهجوم الإرهابي على بعض المدن الأمريكية، بالصور التي التقطها يوم الثاني عشر من سبتمبر. وكانت السلطات الفيدرالية الأمريكية منعت تحليق الطائرات فيما بقي من يوم الحادي عشر من سبتمبر ويوم الثاني عشر منه.

وقد ظهرت السماء في الصور التي التقطها يوم الثاني عشر من سبتمبر زرقاء صافية بعد جلاء التلوث الناجم عما تنفثه الطائرات. ومما أوضحته الصور أن ذلك التلوث الكثيف لم يكن مقصورا على الولايات المتحدة بل كان السحاب الوهمي الناجم عنه يمتد لآلاف الأميال ـ أي من أوروبا حتى أمريكا عبر المحيط الأطلسي.

ويدل هذا على أن الذين لا يزالون يثقون بدقة الرؤية البصرية المباشرة لا يفطنون إلى هذا التلوث المناخي الذي يؤدي إلى حجب quot;السماءquot; وإيقاع المترائين في الوهم نتيجة لعدم صفاء الجو، وهذا ما يوجب إعادة النظر في الثقة التي ربما كان يستحقها المتراؤون بالعين المجردة في القديم حين كانت الرؤية ممكنة بسبب صفاء الجو الذي لم يكن ملوثا بما تنفثه الطائرات.

ويوجب هذا على هؤلاء الفضلاء أن ينظروا الآن إلى شهادة من يشهدون بأنهم رأوا الهلال بالعين المجردة بقدر أكبر من الحذر لأن هناك احتمالا قويا أنهم خدعتهم أعينهم بسبب تلوث الجو الذي أصبح عالميا يتخطى الحدود.

إننا جميعا حريصون على أن يطمئن المسلمون إلى صحة مواقيت عباداتهم. ونحن جميعا حريصون على ألا تمس سمعة المملكة، وألا تكون بيانات المجلس الأعلى للقضاء الموقر موضوعا للجدل الذي قد يسيء لنا. كما أننا كلنا حريصون على أن تكون المملكة قدوة للمسلمين في دقة التوقيت والتقويم الهجري، ومرجعا يطمئن إليه المسلمون في ما يتصل بصحة مواقيت عباداتهم الموسمية.