آلفن توفلر - quot;تريبيون ميديا سيرفيزquot;
خلال الشهر الماضي تلقينا مكالمة مفاجئة لنا تماماً من السفارة الروسية في واشنطن سألنا خلالها أحد مسؤولي السفارة عما إذا كنا راغبين في زيارة موسكو. وبدا واضحاً من خلالها أن شخصاً باسم quot;فلاديسلاف سيركوفquot;، يرغب في لقائي أنا وزوجتي quot;هايديquot;. غير أن اسم الشخص المذكور لم يكن مألوفاً بالنسبة لنا، كما لم تستطع السفارة شرح الأسباب التي تدعوه للالتقاء بنا. وعندما سألنا المسؤول عبر الهاتف عمن يكون هذا الـquot;سيركوفquot;، جاءنا الرد مغمغماً بعبارات فهمنا منها شيئاً له علاقة ما بالرئيس فلاديمير بوتين. وللحقيقة فقد طال غيابنا جداً عن موسكو خلال السنوات الماضية، إذ كانت آخر زيارة لي وزوجتي إليها في عام 1991، حين ذهبنا في رفقة طاقم فريق تلفزيوني ياباني، في عهد الرئيس السابق بوريس يلتسين، وكانت روسيا حينها تعاني من حالة انهيار داخلي، إذ انفصلت عنها أجزاء وجمهوريات مما كان يعرف سابقاً بالاتحاد السوفييتي. وفي الوقت نفسه كان الاقتصاديون الأميركيون ينادون بما اصطلحوا عليه بـquot;علاج الصدمةquot;، أي تسريع خصخصة الشركات والمؤسسات الاستثمارية الحكومية. غير أن تلك السياسات لم تثمر إلا حالة من الفوضى، أرغمت النساء اليائسات اللائي تقدم بهن العمر إلى الخروج إلى الشوارع العامة، أملاً في كسب لقمة عيشهن وأولادهن، من بيع أقلام الرصاص وغيرها من البضائع المنزلية الرخيصة، التي يصعب التعويل على عائداتها.
وعلى خلفية تلك الذكريات، فقد وجدنا أنفسنا على أحرّ الشوق لزيارة موسكو تارة أخرى. والذي زاد من رغبتنا في تكرار تلك الزيارة، تمكننا من الكشف عمن تكون شخصية quot;سيركوفquot; الغامضة، التي حدثتنا عنها تلك المكالمة، بفضل استخدامنا لشبكة الإنترنت. والذي توصلنا إليه من خلال البحث، أن quot;سيركوفquot; هو نائب رئيس موظفي مكتب الرئيس فلاديمير بوتين، من حيث المسمى الوظيفي الرسمي، إلا أنه كثيراً ما يوصف بأنه المحلل الاستراتيجي الأول لبوتين. وعليه فقد كان أكثر ما يشدنا إلى معرفة هذا الرجل، الوقوف على رؤيته المستقبلية. ففيما لو كان quot;سيركوفquot; بذلك النفوذ الذي يُنسب إليه، فإن من المتوقع أن تسهم رؤيته هذه في رسم مستقبل روسيا، أو على الأقل في تحديد مسارها خلال السنوات المقبلة. وللتحقق من صحة هذا، فقد قررنا قبول الدعوة للزيارة والالتقاء به.
وكان قد تحدد موعد هذا اللقاء في السابعة من مساء العاشر من ديسمبر الماضي، في مبنى الكرملين. ومن أجل الوصول إلى المكتب المحدد للقاء، فقد مررنا بعدد لا يحصى من الأبواب المغلقة، في ممر طويل وصامت حينئذ، ما ساعد على استدعاء تاريخ الفظائع المروعة التي ارتكبت وراء هذه الأبواب في عهد ستالين. وعلى نقيض ذلك التاريخ، فقد شهد هذا المبنى خلال العقدين الأخيرين الممتدين من ولاية الرئيس الأسبق ميخائيل جورباتشوف إلى عهد بوتين الحالي، عدداً من القرارات التاريخية بالغة الأهمية، منها الإنجازات الاقتصادية الكبرى، وانهيار النظام السوفييتي. أما الفارق الرئيسي بين هذين العقدين الأخيرين والعهد السوفييتي، فهو أن السنوات الأخيرة من التاريخ الروسي، شهدت كل هذه التحولات، دون أن تكون هناك معسكرات خاصة بالتعذيب، ولا حملات اعتقال جماعي للمعارضين... إلى آخر ألوان الفظائع التي وقعت وراء الأبواب المذكورة.
ثم انتهى بنا السير أخيراً إلى مكتب واسع بيضاوي الشكل، توسطته طاولة مؤتمرات ضخمة، حيث التقينا السيد quot;سيركوفquot; وعدداً من معاونيه ومستشاريه. ومن خلال الحديث الذي ألقى به في وقت مبكر أمام حشد من الروس المعنيين بدراسة المستقبل، وما جرى بيننا من حديث، رأينا كيف يصطدم الماضي بالمستقبل في رؤية هذا الرجل. ولدى مقارنته بـquot;كارل روفquot;، الذي يطلق عليه لقب quot;عبقري الرئيس بوشquot;، لاحظنا أنه مثقف ومفكر، على نقيض نظيره الأميركي. واعتماداً على مواهبه الفكرية، يسعى quot;سيركوفquot; إلى وضع أساسي نظري قوي لنظام بوتين، الذي طالما عرف بدفاعه وولائه له. وضمن ذلك الجهد تراه يحاول تبرير كل هذا التركيز المخيف للسلطة بيد بوتين، من خلال الاستناد الى قرون من الثقافة الروسية، التي يصفها بكونها مصيراً لأمته. وعلى رغم ما على هذه الثقافة التي يستند اليها من مآخذ، أهمها إضفاء طابع شخصي على الممارسة السياسية، ومن ميل إلى التطرف في أحيان كثيرة، إلا أنها لا تنتقص من حقيقة أن quot;سيركوفquot; يعتبر من بين الساسة القلائل في بلاده، الذين يتطلعون إلى المستقبل، ويدعمون الدراسات المستقبلية فيها.
ففي حديث له أمام quot;أكاديمية العلوم الروسيةquot; في وقت مبكر من العام الماضي، تناول quot;سيركوفquot; ما وصفه بالتغيرات التي تحمل روسيا إلى مرحلة ما بعد العصر الصناعي، أي إلى الموجة الثالثة القائمة على اقتصاد المعرفة. ولكن المشكلة أن هناك قلة من القادة الروس المتمركزين في مواقع جد مهمة وحساسة، ممن يتوجهون حقاً نحو الموجة الثالثة هذه. ولا تزال المواد الخام في بلاده، تحتفظ بقيمة أكبر مما للثقافة والمعرفة. وعليه فليس مستغرباً ألا تصبح الثقافة والمعرفة والتعليم، أساساً لاقتصاد روسيا وسياساتها بعد، وألا تتجه بقية دول العالم إلى روسيا طلباً للتكنولوجيا والابتكارات الحديثة. ثم خلص إلى أن المطلوب هو أن تدرك روسيا أن أهم مورد طبيعي لها على الإطلاق، هو الفكر، مؤكداً على أهمية دعم العلم والتعليم.
وهنا على وجه التحديد، يتجلى ذلك الصدام الذي نعنيه بين الماضي والمستقبل في فكر quot;سيركوفquot;. وفي معرض تعليقنا عليه، يجب القول أولاً بانتفاء أن تكون الثقافة مصيراً كما وصفها بذلك السيد quot;سيركوفquot;. ذلك أن الثقافة ظاهرة متغيرة عبر الزمن، وربما تباطأ تغيرها نوعاً ما في الماضي، إلا أنه تسارع بما لا يقاس في عصرنا الحالي. ولذلك فإن الدعوة للاستناد الى الثقافة يجب ألا ترتبط بثقافة الماضي، بل بثقافة المستقبل الذي نتطلع إليه. ثانياً وكما قلنا لـquot;سيركوفquot;، وكتبنا في موضع آخر، فإن ما يتطلبه الانتقال إلى اقتصاد الموجة الثالثة ndash;القائم على المعرفة كما أصاب- ليس المزيد من تركيز السلطات، وما يستتبع ذلك من بيروقراطية بالضرورة، وإنما النقيض تماماً.
ثالثاً، يتطلب اقتصاد المعرفة هذا، المزيد من حرية المعرفة والتعبير، وليس العكس، لكونه يعتمد بقدر أكبر من غيره، على الابتكار المعرفي والأفكار الجديدة. وهذا ما يدعونا لاستنتاج أن هذه الموجة الثالثة التي يدعو إليها quot;سيركوفquot;، يرجح لها أن تتأخر عن موعدها، لا أن تسرّع، بسبب رسوخ المؤسسات السياسية والثقافية القائمة، التي يروج لها quot;سيركوفquot; نيابة عن الرئيس بوتين. وإذا كان هذا الأخير قد تقررت مغادرته لمنصبه في شهر مارس المقبل، فإن الذي لم يحدثنا عنه quot;سيركوفquot; عن احتمالات المستقبل، هو مصيره هو بالذات.