ستيفين فيش -quot;لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوستquot;

أطلقت الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي شهدتها كينيا موجة من الاضطرابات والعنف، كادت أن تعصف بالبلد بعدما أسفرت عن مقتل 500 شخص وتهجير الآلاف من المواطنين الذين لم يجدوا أمام أعمال العنف سوى ترك منازلهم والنزوح إلى أماكن آمنة. ولتفسير هذا التدهور المفاجئ للوضع في بلد أفريقي قطع خطوات مهمة على طريق الديمقراطية يذهب العديد من المراقبين للوضع الأفريقي، والكيني تحديداً إلى تحميل مسؤولية هذا التململ الخطير إلى الانقسامات الإثنية والعرقية في كينيا. فقد رفضت قبيلة quot;ليوquot; التي ينتمي إليها زعيم المعارضة quot;رايلا أودينجاquot; نتائج الانتخابات وشككت في فوز غريمه الرئيس quot;مواي كيباكيquot; المنحدر من قبيلة quot;كيكويوquot;. ومنذ الإعلان عن نتائج الانتخابات تعرضت قبيلة quot;كيكويوquot; لهجوم على أيدي عناصر غاضبة من قبيلة quot;ليوquot;، فيما تعرض أبناء القبيلة الأخيرة إلى موجة من القمع من قبل رجال الشرطة.
لكن بالرغم من الانقسامات الإثنية الواضحة التي تميز المجتمع الكيني ومساهمتها في تأجيج نيران العنف والاضطرابات، فإنه لا يمكن تحميل التنوع الإثني كامل المسؤولية. فكما هو معروف يمكن للتنوع الثقافي والعرقي في المجتمعات أن يلعب دوراً إيجابياً في إثراء الثقافة الوطنية ورفدها بمكونات مختلفة تساهم في تقدمها. والحقيقة أن المتهم الأساسي في هذا التدهور الأمني هي الاختلالات التي ينطوي عليها نظام الحكم والمتمثلة في ضعف المؤسسة التشريعية بالبلاد. ويفترض العديد من المراقبين أن الانقسامات الإثنية تقود في أغلب الحالات إلى اندلاع الحرب الأهلية وتصدع السلم الاجتماعي في البلدان المعنية. وحسب هذا المنطق يظل التنافس بين المجموعات الإثنية المختلفة كامناً تحت السطح ينتظر اللحظة المناسبة للبروز والانفجار، بحيث تكفي حادثة بسيطة، مثل الانتخابات الرئاسية الكينية، لقدح شرارة العنف وإشعال فتيل الفتنة. ويبدو للوهلة الأولى أن هذا التفسير ينطبق تماماً على كينيا بعدما أيقظت انتخابات- وُصفت بالمزورة- الشعور الكامن بالاستياء تجاه قبيلة quot;كيكويوquot; المهيمنة في البلاد، وهو ما دفع quot;ليوquot; وقبائل الأخرى إلى انتهاج العنف.

بيد أن هذه الفرضية تنطوي على مغالطة كبيرة، إذ لم يعثر علماء السياسة على علاقة مؤكدة تستند إلى إحصائيات بين التنوع الإثني والحرب الأهلية. ولئن كانت بعض دول العالم تعيش فعلاً حروباً أهلية واضطرابات اجتماعية وسياسية بسبب الانقسامات الإثنية، إلا أن هناك العديد من البلدان الأخرى التي نجحت في تدبير اختلافها على نحو سلمي دون مشاكل. كما أن كينيا نفسها كانت على الدوام دولة متعددة الإثنيات وشكلت مضرب المثل في مجال الديمقراطية وتدبير الاختلاف، فضلا عن ترسخ الاستقرار والسلم الاجتماعي. وقد تفوقت في هذا المجال على العديد من الدول الأفريقية التي ظلت رهينة العنف، بل وعرفت كيف تحافظ على المكتسبات الديمقراطية، وتحقق النمو الاقتصادي. لكن إذا كان التنوع الإثني بعيداً عن تحمل مسؤولية العنف المستشري حالياً في كينيا، فما هو السبب الحقيقي من ورائها؟

الجواب هو ضعف المؤسسة التشريعية في البلاد وعجزها عن القيام بدورها وحفظ التوازن المطلوب في الديمقراطيات بين الجهازين التنفيذي والقضائي والحيلولة دون تغول أحدهما على الآخر. والواقع أن هذه المقولة التي تربط بين ضعف البرلمان واندلاع العنف في المجتمعات المتعددة إثنياً تستند إلى إحصائيات قامت بها مجموعة من الخبراء. وليس من الصعب إدراك علة هذا الارتباط بالنظر إلى الدور الحيوي الذي يضطلع به البرلمان، بحيث يوفر فرصة للمعارضة، التي لم تستطع تولي السلطة التنفيذية، كي تجهر بصوتها، وتوقف التشريعات التي لا تراها صائبة. وفي حالات أخرى يضمن البرلمان أيضاً، إذا ما توفر النصاب الضروري، سحب الثقة من الحكومة وعقد انتخابات مبكرة دونما الحاجة إلى العنف، أو النزول إلى الشارع.

والحال أن هذه الضمانات غير متوفرة في كينيا التي يعاني برلمانها من هزال شديد. فقد أظهر المسح العالمي الذي قمنا به أن كينيا تحتل المرتبة 126 عالمياً من بين 158 من حيث قوة البرلمان متخلفة بشكل واضح عن دول نامية أخرى مثل الهند (المرتبة 44)، وجنوب أفريقيا (المرتبة 48)، وبنين (المرتبة 59) والبرازيل (المرتبة 60)، وغانا (المرتبة 82). والمشكلة بالنسبة لكينيا وباقي الدول التي تتوفر على برلمانات ضعيفة هي أن الفوز في الانتخابات الرئاسية يعني الاستئثار بكل السلطة واحتكار عملية اتخاذ القرار. وفي هذا الإطار تعرف قبيلة quot;ليوquot; أنها فقدت أدنى أمل في مراقبة سلطات الرئيس quot;كيباكيquot; من خلال المؤسسة التشريعية المناط بها هذا العمل. وبدلاً من ذلك تجد quot;ليوquot; نفسها أمام خيارين إما القبول بفوز الرئيس والانصياع لرغبته، أو رفض النتائج والنزول إلى الشارع. كما أن قبيلة quot;كيكويوquot; التي ينتمي إليها الرئيس تعرف أنها لن تستطيع التخلي عن الرئاسة سلمياً دون التنازل عن السلطة بأكملها. لكن ما جرى في كينيا لم يكن محتوماً، إذ على غرار مجتمعها المنقسم تعرف بلدان أخرى مثل بينين وغانا الانقسامات الإثنية نفسها، وقد أجرت انتخابات رئاسية كادت أن تفضي بها إلى الحرب الأهلية. غير أن البرلمان في بينين وغانا يتمتع بقوة أكبر؛ ومن ثم لا خوف على المنهزم في الانتخابات من الإقصاء السياسي، بحيث يمكنه دائماً ممارسة معارضة قوية من داخل البرلمان. هذه القوة الضرورية للبرلمان هي ما يتعين على كينيا الانتباه إليها والعمل على إرجاعها إلى الحياة السياسية.