قضايا خفية في حياة رئيسة حزب الشعب الباكستاني

إسلام أباد - جاسم تقي

مازالت باكستان تعيش في صدمة كبرى من جراء اغتيال بي نظير بوتو. وما زال الناس يتحدثون عن حياتها وأفكارها وشجاعتها ومعتقداتها الخاصة ومفارقات غريبة في حياتها. ومن أهم الأمور المطروحة على النقاش أن بي نظير بوتو كانت تعلم أنها ستقتل. وكانت تقول ذلك بصورة علنية ومبطنة في حديثها مع المقربين إليها. وتقول ناهيد خان السكرتيرة الخاصة لبي نظير quot; كان يبدو على بي نظير بوتو أنها في عجلة من أمرها عندما عادت لباكستان في 18 أكتوبر سنة 2007. فكانت تريد أن تكمل الكثير من القضايا العائلية والحزبية بسرعة. وكانت تعيش في هاجس الموت لدرجة جعلت المقربين إليها يجهشون بالبكاء من كلماتهاquot;.
ومن الأمثلة على ذلك حرصت بي نظير قبل أسبوع من اغتيالها على زيارة مسقط رأسها لاركانا. ومنها ذهبت إلى quot; نوديروquot; ومنها انتقلت إلى quot; كرهي خدا بخشquot; حيث توجد مقبرة العائلة. فوضعت إكليلا من الزهور على قبور أبيها ذو الفقار علي بوتو وشقيقيها مرتضى بوتو الذي اغتيل بكراتشي سنة 1996، في ظروف غامضة، وشاه نواز بوتو الذي قتل مسموما بباريس سنة 1985. وفي ذلك الوقت اختارت بي نظير بوتو قبرها وأوصت أن تدفن بالقرب من أبيها. وزارت بي نظير بوتو كافة قبور العائلة البالغة 70 قبرا وأوصت القائمين على المقبرة بتحسين الخدمة والنظافة فيها ومراعاة حرمة الموتى.
وأثار اهتمام بي نظير بوتو بالقبور تساؤل الناس حولها. ترى لماذا هذا الاهتمام بمقبرة العائلة؟ ولماذا اختارت بي نظير قبرها وهي التي رجعت لباكستان وكلها أمل أن تكتسح الانتخابات وتكون رئيسة للوزراء للمرة الثالثة؟ وما هو السر في هذه النظرة التشاؤمية للسيدة؟ ترى ما الذي كانت تعرفه وتعتبره من المسلمات وتحرص ألا تجهر به؟
قبل يومين من اغتيالها حرصت بي نظير على الذهاب إلى بشاور عاصمة إقليم الحدود الشمالية الغربية. وأصرت على الاجتماع بكافة قيادات حزب الشعب الباكستاني هناك. وكانت تمضي وقتا طويلا بينهم بصورة لفتت أنظار الجميع. وقابلت كل شخص في مركز الحزب. وفي النهاية سألت الجميع quot; هل أغفلت الحديث مع أي منكم؟quot; وكانت بي نظير بوتو تحدثهم بصورة استرعت انتباههم وكأنها تلقي النظرة الأخيرة عليهم.
وفي اجتماع آخر مع قيادات حزب الشعب كانت بي نظير بوتو تبدو في عالم آخر. فناقشت قيادات الحزب في اجتماع انتخابي خطط له بتاريخ 5 يناير سنة 2008. وفوجئ الجميع بها وهي تقول quot;ولكنني لن أكون موجودة في ذلك التاريخ.quot; واعتقد الجميع أنها ربما تشير إلى أن لديها عملاً شخصياً في ذلك اليوم. فلم يعرف أحد كان يجول برأس بي نظير.
و عندما كانت السيدة في دبي وقبل مجيئها لباكستان حرصت على شراء هدية لتقدمها لإحدى ابنتيها بمناسبة عيد ميلادها ولكنها التفتت لزوجها آصف زرداري فطلبت منه أن يشتري لابنتها الأخرى هدية الاحتفال بعيد ميلادها. فحار أصدقاؤها بذلك لأنها كانت تحب ابنتيها بنفس الدرجة.
وكان حزب الشعب الباكستاني يخطط لاجتماع انتخابي لبي نظير في مدينة لاهور. ولكنها أصرت على أن يكون اجتماعها الانتخابي الأخير بمدينة راولبندي وقررت إنهاء كافة الحملات الانتخابية بذلك الاجتماع.
وعند انتهاء الاجتماع كانت بي نظير بوتو مطمئنة جدا للحضور الكبير وسلامتها داخل حديقة quot; لياقت باغquot;. وعندما ركبت سيارتها المصفحة لتخرج من الاجتماع كانت في ذروة فرحتها. فقد كانت حماسة أتباعها لها منقطعة النظير وتبعوها خارج quot; لياقت باغquot; وهم يحيطون بسيارتها. وهنا أمرت بي نظير بوتو بفتح سقف السيارة لتلقي تحية أخيرة لأتباعها فكانت آخر لحظة في حياتها.
الخوف من المجهول
كتب الكثير عن تعليم بي نظير بوتو في المدارس الداخلية الإنجليزية وفي جامعة أكسفورد ببريطانيا وجامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية. ولكن قليلا من الناس على دراية بعقلية بوتو الخاصة وتفكيرها الشخصي ونظرتها للحياة. ويؤكد جميع المقربين إليها والذين عاصروها أنها كانت تخشى المجهول على الرغم من تعليمها العالي وقدرتها البلاغية. فقد كانت ذكية جدا. وكانت متحدثة لبقة وحاضرة البديهة وتتمتع بقدرات خطابية لا تفوقها قوة إلا قدرات أبيها ذو الفقار علي بوتو الذي عاصرته منذ السبعينيات وكانت مترجمه الشخصي. وكان يحرص على ترجمة خطاباته للغة العربية. كان يوليها أهمية كبرى. وكان يتوسم فيها القيادة حتى عندما كانت في مقتبل العمر- في العشرينات- لذلك حرص أن يعلمها في أرقى المدارس والجامعات.
وعلى الرغم من كل ذلك فقد كانت هناك قضايا خفية في عقل بي نظير بوتو. لقد كانت تخشى المجهول بصورة غير عقلانية تذهل المقربين إليها. ومنذ أن عادت لباكستان في الثمانينات ثم خاضت انتخابات 1988 وفازت بها وأصبحت رئيسة لوزراء باكستان كانت تخشى المجهول. كانت تخلو مع نفسها بعيدا عن مستشاريها ومقربيها تفكر بما سيؤول إليه أمرها. ولا يعرف ما هو السر في ذلك التوجه غير العقلاني لاسيما بالنسبة لامرأة مثقفة وشجاعة تعلمت في أرقى الجامعات البريطانية والأمريكية. ولعل إعدام أبيها بصورة مروعة في 4 أبريل سنة 1979 أثر في حياتها تأثيرا كبيرا. فقد سمحت لها السلطات برؤية أبيها قبل إعدامه. ورأته وهو في زنزانة الموت من وراء القضبان. وكانت تصرخ وتتوسل لجلاديه أن يفتحوا زنزانة الموت لتعانق أباها للمرة الأخيرة قبل إعدامه. فلم يوافقوا على ذلك.
اللجوء إلى العرافين
وظل منظر إعدام أبيها يعيش بذكراها طيلة حياتها. وظل هاجس الموت والخوف من المجهول يلاحقها. فكانت تسأل عن العرافين وquot;أولياء اللهquot; وتذهب إليهم كي يخبروها شيئا مما لا يعرفونه قطعا وهو quot;الغيبquot;. وأتذكر قصة في ولايتها الأولى كرئيسة لوزراء باكستان سنة 1988. فقد سمعت بي نظير بوتو باسم أحد العرافين بضواحي إسلام أباد. وقد ذاع صيته بين الناس وكثر الحديث عن quot;كراماتهquot; وquot;الانكشافات الفكريةquot; وquot; السمو الروحيquot; وquot; قدرته على معرفة المجهولquot;. وكان الشخص غريب الأطوار في تصرفاته وسلوكه على الرغم من شهرته. ولكن على الرغم من ذلك فقد قررت بي نظير الذهاب إليه.
بطبيعة الحال فوجئ الرجل برئيسة الوزراء وحاشيتها يأتون إليه في منطقة تفتقر حتى لشارع معبد ولا يأتيها إلا الفقراء والمعدمون من اتباع المذكور أو ما يسمى باللغة الأردية quot; المريدينquot; مشيا على الأقدام. وفاجأت بي نظير العراف بسؤالها عن مستقبلها!
ويبدو أن صاحبنا أخذ على حين غرة ولم يرتب أفكاره كما ينبغي. وكانت بيده عصا فما كان منه إلا أن ضرب بي نظير بعصاه مرتين. مرة على كتفها الأيمن والأخرى على كتفها الأيسر. وأثار ذلك الأمر الحرس فتقدموا نحوه لينهروه.
وهنا أسعف العراف مساعده الخاص والذي يعطي تفسيرات لتصوراته الغريبة ليضفي عليها طابعا من العقلانية. فقال مساعده مفسرا quot; العراف يتنبأ بضربتيه على كتفي السيدة بي نظير بوتو بأنه ستكون لها ولايتان كرئيسة للوزراء.quot; وهنا ابتسمت بي نظير وسكت العراف وسكت مساعدته. فقد اطمأنت بي نظير أنها ستكون رئيسة للوزراء مرة أخرى فرفع الأمر من معنوياتها وزاد من بهجتها ورد إليها الثقة بالنفس.
وفي ذلك الحادث يتوقف عند بي نظير بوتو هاجس الخطر والموت والخوف غير العقلاني من المجهول بصورة مؤقتة ليعود مرة أخرى عند ابتلائها بشتى المصائب والويلات. وذلك ما حدث فعلا. فقد أصبحت بي نظير رئيسة وزراء مرة أخرى سنة 1993. فكذب المنجمون ولو صدقوا !
و كان العرافون وquot; أولياء اللهquot; قد تدخلوا قبل ذلك حتى في قضية زواج بي نظير من آصف علي زرداري. فعند عودة بي نظير من المنفى في 10 أبريل سنة 1986 استقبلها جمع كبير من الناس قدره حزب الشعب بثلاثة ملايين نسمة. وكان يبدو جليا أن بي نظير ستكون رئيسة الوزراء الجديدة ولاسيما أن الجنرال محمد ضياء الحق رفع الأحكام العسكرية في 30 ديسمبر سنة 1985 بعد أن عقد انتخابات عامة على أساس quot; عدم مشاركة الأحزاب السياسيةquot; جاءت بحكومة محمد خان جونيجو.
في الزواج
و كثر الكلام عن بي نظير. كيف يعقل أن تكون امرأة في مقتبل العمر رئيسة وزراء دولة إسلامية وفي مجتمع محافظ؟ وزادت الاعتراضات على بي نظير بالذات لأنها لم تكن متزوجة. فطرح موضوع زواجها. ولم تكن بي نظير تفكر بالزواج. ولكن الزواج كان ضرورة سياسية كي تكون مقبولة في مجتمع محافظ كان مازال يعيش أجواء الجهاد الأفغاني ضد قوات الاحتلال السوفيتي لأفغانستان. وكثر الكلام حتى انبرى quot; ولي اللهquot; المعروف quot; بير بغاروquot; فتنبأ بأن زواج بي نظير بوتو سيضمن فوزها بالانتخابات وظهورها كأول رئيسة وزراء في باكستان. وكان بير بغارو رئيس quot; الرابطة الإسلامية- فنكشنالquot; يجمع ما بين الجد والهزل في تنبؤاته وأقواله. ولكن السنديين كانوا يأخذونه مأخذ الجد ويعتقدون بكل ما يقوله. فهو quot;بيرquot;. والكلمة تعني quot; ولي اللهquot;. ولا يجرؤ أحد على أن يسير في أراضيه الواسعة إلا بعد أن يخلع نعليه. فهو مقدس وأرضه مقدسة وكل ما حوله مقدس !!
وقررت بي نظير بوتو الأخذ بنصيحة quot; بير بغاروquot; ولكن أمها quot; نصرت بوتوquot; اختارت زوجها من عائلة زرداري. وهي عائلة لها قبائل مسلحة تقدر بمئة ألف شخص. وكان يرأسها حاكم علي زرداري. والقبيلة من أصول إيرانية- وكانت نصرت بوتو نفسها من أصول إيرانية- نزحت من بلوشستان الإيرانية واستقرت في quot; نواب شاهquot; بإقليم السند منذ مئات السنين. وبمرور الوقت انتهت التقاليد الإيرانية لأفراد القبيلة ونست لغتيها البلوشية والفارسية وأصبح أفرادها كلهم يتكلمون اللغة السندية.
وفي السياسة تحققت نبوءة quot; بير بغاروquot; فقد كان زواج بي نظير بوتو عاملا مساعدا لقبول بي نظير بوتو كرئيسة للوزراء بعد أن فاز حزبها بالانتخابات التشريعية التي عقدت في نفس السنة. وفي الثاني من ديسمبر 1988م أدت بي نظير بوتو اليمين الدستورية كأول امرأة في باكستان والعالم الإسلامي تتسلم مقاليد رئاسة البرلمان. ولكن زواجها من آصف علي زرداري خلق لها مشاكل جمة لتورط زوجها في العمولات وغسيل الأموال حتى سمي بـquot; Mr. 10 percentquot;. ويقال- والله أعلم- أن بي نظير كانت على علم ودراية بما كان يحصل بينما كانت تنكر ذلك بشدة. ولكن نبوءة العراف سببت في فصل بي نظير من منصبها كرئيسة وزراء مرتين وجرّت عليها وبالا وجعلتها تخرج من باكستان وتعيش بالمنفى لمدة 8 سنوات. وكانت بمأمن حتى عودتها لباكستان. وكانت بي نظير خلال عودتها ( 18 أكتوبر- 27 ديسمبر 2007) تعيش حياة محفوفة بالخطر فكانت تشعر بالخطر من المتطرفين الإسلاميين وذكرت ذلك علنا في العديد من المقابلات الصحفية مع أمهات الصحف الأمريكية والبريطانية.
وقبل أسبوع من اغتيالها زارت ضريح quot; كولرا شريفquot; وهو ضريح quot; بير سيد شاه عبدالحق جيلانيquot; في إسلام أباد. وحرصت أن تلتقي بحفيد quot; البيرquot; المذكور quot; بير سيد غلام قطب الحق جيلانيquot;. ولا يعرف أحد ما دار بين الاثنين.
و لكن بي نظير بوتو خرجت من الاجتماع متشائمة وظلت تخشى من المجهول وتعيش بهاجس الموت حتى اغتيلت.