الحسين الزاوي
بصرف النظر عن الظروف التي سوف تصاحب العملية الانتخابية في باكستان المؤجلة إلى ما بعد منتصف شهر فبراير/ شباط، ومهما كانت طبيعة الطيف السياسي الذي سيكون له مشقة وتبعات قيادة باكستان في مرحلة من أصعب المراحل منذ نشأتها، فإن باكستان تعيش مخاض مشروعية جديدة يصعب في المرحلة الراهنة رسم ملامحها بكثير من الدقة. فالمشهد المحلي والإقليمي للمنطقة قفز من خانة صراعات داخلية على السلطة إلى مستوى الصراع الذي يختزل الأزمة العالمية المرتبطة والمتدثرة بوشاح الهوية الدينية في أكثر تجلياتها المأساوية.
ورغم أن صراع الهوية الدينية قد بدأ في شبه الجزيرة الهندية منذ أكثر من ستين عاماً على وقع المطالبة بالحقوق السياسية والوطنية لمسلمي الهند إلا أن ما كان يمثل وسيلة لإنجاز غايات تحمل طابعاً استعجالياً، تحول بمرور الزمن ومزايدات السياسيين إلى هدف في حد ذاته. لقد تم استثمار عنصر أساسي من عناصر الهوية الوطنية لشعوب المنطقة إلى المستوى الذي لم يعد بإمكان الأطراف السياسية التحكم في مداه، وحتى الصراع القبلي الذي كان سبباً من أسباب انفصال باكستان الشرقية التي أصبحت تعرف بدولة بنغلاديش، تم تطعيمه هو الآخر بالكثير من العناصر الحاملة للنفحات الدينية ليتم اختزال الأزمات الهيكلية والثقافية والسياسية لشعوب المنطقة إلى صراع على من يحق له تقديم التأويل السياسي الصحيح للدين.
إن الأزمة السياسية الحالية ذات أبعاد وأوجه متعددة كما ذهب إلى ذلك ldquo;فريديريك بوبانrdquo; في مقاله التحليلي بجريدة ldquo;لوموندrdquo;، إنها أزمة محلية راسخة وعميقة تمت تغذيتها من خلال لعب سياسي خطير تبنته ورعته النخب السياسية والعسكرية في باكستان منذ فجر الاستقلال، كما أسهم الغرب وخاصة أمريكا بقسط وافر في بلورته وتطويره استجابة لحسابات سياسية آنية أملتها ضرورات الواقع السياسي الضاغط الذي يفتقد لأي استراتيجية سياسية بعيدة المدى. وبالتالي فالتطرف الذي تندد وتصرخ ضده بعض النخب السياسية هو صناعة محلية بامتياز، لأن النظام لم يستطع إيجاد مشروعية سياسية بديلة عن الهوية الدينية، من أجل مواجهة الانقسامات القبلية ولم يتمكن بالتالي من ضمان ولاء القومية ldquo;البشتونيةrdquo; داخل أفغانستان بعيدا عن الاستثمار السياسي للدين. ولا شك في أن الجميع يتذكر أن حركة طالبان تأسست بدعم مباشر من المؤسسة العسكرية، وإبان الولاية الثانية لحكومة بينظير بوتو المغتالة، وقد كان وزيرها للداخلية في الفترة الممتدة من 1993إلى ،1996 نصيرالله بابار أحد أبرز مهندسي المشروع الذي سمح لطالبان وللقومية ldquo;الباشتونيةrdquo; بتسلم السلطة وقطع الطريق أمام القوميات الأفغانية الأخرى المتهمة بالولاء لجيرانها من جمهوريات الاتحاد السوفييتي المنهار.
إن الطابع القبلي والإقطاعي الذي ظل يميز النظام السياسي في باكستان منذ انفصالها عن الهند، لم يسمح بتهيئة الظروف من أجل قيام مجتمع مدني يمكنه أن يطور الدولة على أسس ديمقراطية وعصرية، وبالتالي فإن النخبة السياسية لمنطقة السند ممثلة في عائلة ldquo;بوتوrdquo; لم تكن تملك من رصيد الحكمة السياسية ما يؤهلها لأن تثور على الأسس العتيقة لهيكل الدولة. لقد أراد أحفاد الامبراطورية الإسلامية في الهند أن يقيموا كياناً إسلامياً صرفاً فسقطوا في الفتنة الدينية وفرطوا في حلم استعادة المسلمين لحكم الهند بعد أن ساسها أسلافهم من السلاطين المسلمين على أسس حضارية سمحت لقرون عديدة بهامش كبير من التعددية العرقية والدينية. وقد برع الهنود في استثمار ميراثنا الحضاري حينما قبلوا أن ينصّب رجل مسلم على رأس الجمهورية في العهدة السابقة، حتى وإن كان منصب رئيس الجمهورية في الهند يعد منصباً شرفياً، وقد مثلت تلك الالتفاتة التكتيكية تكريماً لعالم قدم الكثير من الخدمات للبرنامج النووي الهندي.
ما حدث في باكستان طيلة سنوات عديدة يمثل ضياعاً كبيراً للحضارة الإسلامية التي كانت تمثل رمزاً للأصالة والهوية بالنسبة لمجموع شعوب المنطقة من المتدينين وغير المتدينين، الذين كان يمثل الإسلام بالنسبة إليهم مصدراً للانتماء القومي المتعالي عن القوميات الانفصالية المحلية. وقد مثل ذلك البعد إثراء كبيراً للإسلام بوصفه يمثل مزيجاً إبداعياً لعناصر الدين والحضارة سمح لغير المسلمين بأن يتعايشوا مع المسلمين ويبدعوا في سياق ما أصبح يعرف بالحضارة العربية الإسلامية. لقد سعت الدولة الباكستانية منذ سنة 1947 لأن توظف كل ldquo;البهاراتrdquo; السياسية بما فيها التوظيف السياسي للدين من أجل استعادة الأجزاء المحتلة من كشمير من طرف الهند، ومن أجل إبقاء أفغانستان تحت نفوذها تجنباً لأي نزاع حول الحدود يمكن أن تقوده القوميات غير ldquo;البشتونيةrdquo;، وذلك بعد أن صوتت الملكية الأفغانية سنة 1947 ضد انضمام باكستان لهيئة الأمم المتحدة، لكنها فشلت في كل ما خططت له فشلاً مروّعاً. وعرّضت كيانها الوطني للسقوط في شراك المزايدات التي تنسجها التنظيمات المتطرفة، والتي يستحيل على الأنظمة مجاراتها من دون الوصول إلى عتبة الإفلاس السياسي، كما أن تبعات ذلك الفشل انعكس كذلك على تحالفات باكستان الخارجية وجعلها مستباحة أمام مزايدات الساسة الأمريكيين بعد أن بالغت المؤسسة العسكرية الباكستانية في المراهنة على حليف عرف تاريخياً بقلة الوفاء. فقد سبق لوزيرة الخارجية الأمريكية أن قالت: إن بلادها ليس لها عدو دائم، والحال أن لسان حالها كان متوثباً للتأكيد والقول إنه ليس لأمريكا صديق دائم.
إن التوظيف السياسي لعناصر الهوية وفي مقدمتها الدين، يمكن أن يؤدي إلى نتائج بحجم الكارثة ولا يتعلق الأمر هنا في الرغبة في الانخراط في مهاترات الثنائية التبسيطية بين الدين والعلمنة، فالرهان يتجاوز مثل هذه الحسابات السياسية ذات الطبيعة الآنية والظرفية لأن تعريض أسس الهوية وركائزها لأمزجة ومنافحات السياسيين، يضعف مقومات الأمة والبلاد والعباد، فليس الإسلام ملكية لفريق دون الآخر، مثلما أن الديمقراطية ليست امتيازاً لعصبة من دون أخرى. فالديانات والعقائد تقع في المجمل بين الحدود الفاصلة والقصوى بين من يوّسع من ماصدقها وامتدادها بلغة المناطقة وبين من يضيق ذلك الماصدق، والحكمة كل الحكمة تكمن في قاعدة الإسلام الذهبية التي تعلي من شأن الوسطية وتحذرنا من الإفراط والتفريط.
التعليقات