دمشق - نعمة خالد

عن منشورات بابل صدر للشاعر عبد الرحمن الماجدي ديوانان الأول يحمل عنوان: laquo;المعنى في الحاشيةraquo;، والثاني يحمل عنوان :laquo; أختام هجريةraquo;.

في ديوان المعنى في الحاشية نجد أن الشاعر يسعى إلى الاستبطان الداخلي، وهو ما يتماشى مع دلالة العنوان الذي عنون فيه المجموعة. وسعى إلى جدل هذا الاستبطان بالتصوير للمأساة الإنسانية الشاملة، فلا يقف عند حدود الذات المفردة، بل يتجاوزها إلى إطار شامل تتداخل فيه الأصوات وتتشابك، ونلمس في ذلك التداخل نزعة درامية، حيث تتجسد هذه الدرامية في إطار جدلية تعبيرية، تحيل إلى إطار فني جديد من الفن الشعري. نقرأ تحت عنوان يواصلون لفافاتهم: بلذة يمر الوقت/ مستذكراً نساء الحي يعبرن قناة/ الجيش بعباءات الصوفية/ ليهبن السادن نذور حرب قادمة/.... يواصل الحشاشون لفافاتهم عند السقيفة المركزية/ تتمدد النشوة في عيونهم فينقزون/ مردفين ما تبقى من يومهم على دراجة النادلة/ ... يقودني ملتح لشيوخ أوائل يتداولون نعشاً يدسون/ فيه ذكرياتهم ويكركرون.

ونقرأ: فخذيني يا مدناً مشردة/ يا شوارعك: جرديني من شبهة العسس./ يا ناسك: أصدقائي بحارة يلوحون./ يا مدناً مشردة../ على السقالة يلاصق البناء الأجساد/ ليسمح للوقت بالمرور على راحته/... / سيجرح الصبي ساقه ويدخل فيها؛/ ليصدق الحكاية عن ملك قديم؛/ ليتأكدوا من كذبة أعطتهم امرأته/ رأسه، وقالت إنها يوحى لها. rlm;

فيما تقدم نجد أن الشاعر قد توسل الحركية فضلاً عن الكثافة الدلالية والترميز اللغوي. فالشاعر يعاين الواقع بدقة ليظهر تأملاته لهذا الواقع عن حياة الإنسان الذي راح نهباً للسلطات التي رمز لها هنا بسلطة السادن، الذي هو من يمتلك الزمن في راحته، وبإشارة إلى بعد ديني يتوسله السادن ليدس النعش أنى شاء، هو نعش للذاكرة والذكريات، وكأن قدر إنساننا أن يعيش فارغاً حتى من ذكرياته، قدره أن يصبح طبلاً أهوج، لا فعل له سوى الجعجعة. rlm;
في قصيدته رسالة: نقرأ: rlm;
عمت عداوة أيها الصديق/ بأسرع من عناق،/ أبطأ من طعن،/ عبأت صناديق غوايتك بظل جثتي،/ حددت بعناية إحداثيات قوسك/ وأطلقته عبر الحدود/ مبشراً بهزيمة تتنصل منها./ رحت تبني بيت وشايتك كذبة كذبة/ لتسقي خروع جرأتك من عرق/ براءتي. rlm;

في هذه القصيدة يتجاوز الشاعر الغنائية ، ويصل إلى القدرة على أن يبلغنا الإحساس بحياة واقعية والإحساس بالراهن القائم، أي بالخصائص التامة للحظة من اللحظات حاسمة يحس المرء فيها إحساساً فعلياً بخذلان الشاعر من الصديق الذي تحول إلى عدو. والقصيدة تبين مكنونات نفس الشاعر وروحه، ومعاناته الشخصية، ولا يأتي تصوير هذه المعاناة خبط عشواء، بل ثمة قصدية واختيار لكل ما يقع في بؤرة اهتمامه، حيث تحفر خيانة هذا الصديق عميقا في روحه، لذا يقول: عمت عداوة، أبطأ من طعن، ومن يتمنى الطعن لصديق، إلا إذا كانت الطعنة التي انغرست في روحه، أعمق من الأمنية؟ ما من شك أن الصديق العدو قد تسبب في وجع عصي على النسيان. rlm;

ولعل هذه الحالة التي صورها الشاعر، ليست حالة فردية، بل يمكن أن تنتقل إلى حالة عامة، فكم من صديق لدود يمكن أن يتقنع بلبوس المحبة، ويدسّ السم في أرواحنا؟ rlm;

ولعل المتتبع لقصائد الشاعر عبد الرحمن الماجدي سيلمس اهتمامه باليومي، هذا اليومي الذي يفصح عن جوانب يمكن لها أن تنبش في خفايا النفس البشرية، وتجلو من دواخلنا ما خفي من أمور. وربما يتوسل الشاعر بعض الأبعاد المثولوجية في إطار علاقة جدلية تستكمل صورة الواقع الميثولوجي والإنساني والسياسي والثقافي. ومن خلال ذلك يشير إلى تلك الدراما التي نعيشها كبشر في أيامنا هذه. والقصيدة عند الماجدي تسري في روح العصر للتعبير عن هموم الشاعر المأساوي. ويأتي ذلك في إطار كثافة ومجازات وتدفق أساليب مباغتة في التعاطي مع الزمن. نقرأ له من قصيدة الجميلات آنفاً:quot; جئن من غابة الذاكرة،/ هرعن لخزانة العاشق،/ يبحثن بين ثياب الصدفة عن / منامات سهوهن./ لعينيه،/ عن مرآة غنجهن./ ليديه/ عن خدر أجسادهن/ لشفتيه/ عن دم لبكارات ثغورهن/ لصدره/ . rlm;

كم تزخر هذه القصيدة بأحاسيس الغياب؟ كم تزخر بأحاسيس الوجع على ما مضى، والعاشقات هنا لسن العاشقات بالمعنى الحرفي للكلمة، بل ثمة مجاز سعى إليه الشاعر توسل فيه العاشقات ليقول مقولته في دم البكارات ليس من الثغور بل من الروح التي استنزفها العاشق والمعشوق في آن، وهل من عاشق ومعشوق يستنزف دم الروح غير الوطن المباح للجهات الست كما يشير في غير قصيدة له في ديوانه laquo;أختام هجريةraquo;.هذا الديوان الذي زخر بالمعاني الصوفية، والتي جاءت اللغة فيه مندغمة ما بين الصوفي واليومي أيضاً. نقرأ في قصيدته حديقة الرحمن من ديوان أختام هجرية: أشار إلينا/ وفي الظل تسلم نياشيننا/ عندما الآخرون نسوا عيونهم/ في مباخر/ الأساقفة/ أشار إلينا../ وأطلعني على آية منه/ على لحظة يقينه/ فتعرفت على وريثه في بهو/ كلامه/ عندما الآخرون ألبسوه قميص الردة/ وخاطوا فم يومه بالوشاية/... يا أحد عشر غائباً/ خذني لأجرك/ وطوقني بالهائل من أسيافك/ لأحصي هزائمي./ وأعيد بها ترتيب يومي./ قدني لمأدبة شراكك/ لأسترد طهارتي من دنس/ غيابك./ أدخلني حديقتك/ لأتذوق طعم الغفلة في ضحكك. rlm;

في القصيدة السابقة يحاول الماجدي أن يستشف الحقيقة، ويتوسل التناص الجزئي مع بعض آيات القرآن الكريم، ربما أراد أن يحاكي كذب إخوة يوسف، ويحاكي غياب احد عشر كوكباً لم يسجدوا لحلم بحديقة الرحمن، بل تمسي الحديقة فضاء للغفلة، غفلة تدنس طهارة الروح، تدنس سيوف الأسلاف بالوشاية، لا تفسح للشاعر أن يعيد ترتيب يومه لكثرة الهزائم. rlm;

ولعل ما سبق وقلت عن الأسلوب المباغت للتعاطي مع الزمن يتجلى في تلك القصيدة، فهو إذ يتوسل حديقة الرحمن التي تحاكي يوم البعث، وهنا زمن دهري، فإننا نجده يباغتنا باليومي الذي يريد ترتيبه، وبالهزائم الراهنة رغم سيوف الأسلاف. rlm;

والقصيدة تشير إلى أبعاد الأزمة النفسية التي فرضها الزمن على الشاعر، وربما هي أزمة كلية، تشير إلى انكسار النفس الكلية. rlm;

في قصيدته هروب من ديوان أختام هجرية نقرأ: quot; خالي سلمان أصابه الفالج/ حين أولاده غيروا مهنته من فلاح إلى عامل/ لزم الصمت/ سمعوه ذات ليلة يبكي/ كالثكالى في فراشه/ في الصباح اختفى/ بحثوا عنه/ في درابين الثورة، بيوتها،/ ..../ جاء زائر، بعد أيام من العمارة/ أخبرهم عن شيخ وجد ذات ليلة/ يبكي كالثكالى/ في مشحوف نابت/ في طين الهور الناشف/ مصاب بالفالج. rlm;

في القصيدة السابقة نجد أن الحدث اليومي هو الذي استحوذ على القصيدة، وجاءت القصيدة بسيطة الألفاظ، مضفية نكهة واقعية صادقة، تطلبها السياق الشعري، وذلك كان ضرورة لالتصاق القصيدة بطبقة شعبية همومها لا تحتمل الترميز، ووجعها لا يحتمل المواربة. rlm;

أما في قصيدته اقتران من ديوانه المعنى في الحاشية فنقرأ: كلما أمسك أمنية/ تدلي قدميها في القبر،/ قائلة: اتركني، أو أنزلك معي!. rlm;

أتساءل في قصيدة اقتران: كم منا قد عاش حالة الاقتران هذه؟ إن قصيدة اقتران تجسد الوشائج بين المتلقي والشاعر، في إطار بنية متفاعلة، يستطيع المتلقي من خلال ذلك أن يعاين الواقع بدقة، rlm;

أخيراً يمكننا القول إن الشاعر العراقي عبد الرحمن الماجدي قد حول الكثير من القضايا والمقولات في شعره إلى شحنات عاطفية وإنسانية، في إطار فني شعري مميز، حيث اللغة الشعرية انحرافاً عن المألوف وعن القواعد المتعارف عليها في قوانين اللغة المعيارية. وهذا ما يعطي الماجدي خصوصيته. rlm;