جابر حبيب جابر

من يرصد الحراك داخل النخبة السياسية العراقية سيلحظ كم من الانشقاقات والانسحابات قد حصلت داخل تلك الكتل والكيانات بدون استثناء، فالائتلاف العراقي الموحد الحاكم فقد أغلبيته مع انسحاب الفضيلة والتيارالصدري ومع انقسام أجنحة الدعوة الى أجنحة جديدة، وجبهة التوافق شهدت انشقاق أعضاء سابقين فيها أسسوا الكتلة العربية المستقلة بالإضافة الى انقسامات لا ينقصها سوى الإعلان، والقائمة العراقية (برئاسة اياد علاوي) شهدت انسحاب خمسة من أعضائها، في الوقت الذي يعبر فيه المتبقون عن حالة من الانشطار الضمني، بل ان الانشطارات انسحبت الى الجماعات الناشطة خارج الإطار البرلماني وحتى خارج العملية السياسية، ففصائل laquo;المقاومةraquo; لم تكتف بالإعلان عن انقسامات متواصلة، بل انخرطت في صراعات مسلحة مع بعضها البعض، ومشروع الصحوة أخذ يتحول الى صحوات متنافسة. وفي الوقت الذي نسمع فيه بين الحين والآخر عن احتمال نشوء تحالف جديد بين عدة كتل سياسية، يسارع laquo;المتحالفونraquo; المفترضون الى تكذيب ذلك بالقول إن الأمر لا يعدو أن يكون مذكرة تفاهم حول قضية معينة، حتى أصبحت ظاهرة مذكرات التفاهم بديلا يختبئ خلف أطره الاحتفالية عجز مزمن عن خلق شراكات وطنية حقيقية.

إن هذه الظاهرة ليست جديدة على الثقافة السياسية العربية والعراقية، بل أزعم أنها كانت موجودة على الدوام حيث عاشت الأحزاب والنخب السياسية حالات من الانشطار الدائم والإقصاء المتراكم، إذاً إنها ظاهرة امتدت طيلة عمر الأحزاب العراقية، بل أيضا امتدت لقوى المعارضة التي عاشت أزمة انشقاقات دائمة ليس بين القوى المتباينة فكريا ومنهجيا، بل بتلك ذات التوجه الفكري والمرجعية الواحدة والممثلة لمكون واحد والساعية لهدف واحد.

وفي الوقت الذي نلحظ فيه التنافس الانتخابي داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري على أوجه اليوم وبشكل غير مسبوق منذ زمن طويل، فانه تنافس لم يتمظهر بصيغة انشقاق من الحزب أو تشكيل حزب جديد، فالبنية الحزبية في الولايات المتحدة وبقية الديمقراطيات العريقة تتسم بالمرونة والقدرة على التكيف واستيعاب طيف واسع من الرؤى السياسية والآيديولوجية. أما عندنا فان الانشقاق والانشطار يبدوان اقرب الحلول للعجز عن التعايش وإدارة الخلاف والتنافس الداخليين.

ولعل السبب الرئيسي لهذه الظاهرة هو الشخصنة المفرطة للعمل السياسي وعدم بلورة أطر مؤسساتية فاعلة وقادرة على استيعاب التباينات في المواقف والاتجاهات ضمن سقف آيديولوجي وسياسي معقول، ومجرد الاختلاف الشخصي هو سبب كاف للانشطار لأن السياسيين عندنا عادة ما ينطلقون في توجهاتهم من هاجس مضخم للأنا يتحول معه الخلاف مع الآخر الى تهديد لتلك الأنا، لا سيما إن اقترنت بنزوع نحو الزعامة والتفاف من مريدين يرغبون بمعالجة تهميشهم بإقامة مركز قوة بديل يدفع بهم الى مستويات مسؤولية أعلى حتى لو اقترن ذلك بإضعاف كيانهم السياسي الذي يفترض أنهم يستمدون القوة منه. الكتل السياسية العراقية استحالت الى مراكز قوى متمحورة حول شخصية تستمد نفوذها من إرث عائلي أو كاريزما شخصية أو علاقات خارجية تدر ربحا ونفوذا، وعندما يحصل خلاف ما بين مراكز القوى تلك يغدو الانشطار أبسط الخيارات. هناك أيضا الصراع على الحصص، ليس بين الكتل وحسب، بل في داخل تلك الكتل نفسها، صراع يرهن التحالف المفترض بتوزيع المناصب وlaquo;المغانمraquo; بطريقة المكافأة التي يؤدي انقطاعها الى نفاد التبرير السياسي للتحالف. فهذه التحالفات تأسست أصلا على وعد بتقاسم المراكز والسلطات لا على قاعدة من مشاطرة البرامج والتوجهات. أن أحزابنا برهنت على أنها بنى غير حوارية لا تستوعب الاختلاف الداخلي ولا تتسامح مع الاجتهاد بالقدر الذي يسمح لها بالحياة والتجدد، فالانشطار بذاته ليس تجددا بل هو تعبير عن الانغلاق لأنه إما ناتج عن رغبة بالهروب من استحقاقات تشاطر المسؤولية أو ميل للإقصاء نشدانا لاحتكار تلك المسؤولية. إن أيا من الكتل السياسية القائمة عجزت عن تحويل نفسها الى إطار مؤسساتي حقيقي يعكس ما تتطلبه العملية الديمقراطية من انتظام هيكلي يشمل كافة مستوياتها والفاعلين فيها، الأمر الذي يطرح بقوة سؤالا بسيطا: هل يمكن لأحزاب غير ديمقراطية أن تنتج نظاما ديمقراطيا؟ كيف يمكن لأحزاب وكيانات سياسية عاجزة عن أن تستوعب لغة الحلول الوسطى أو أن تلعب مباراة غير صفرية في داخلها، أن تؤسس مشروعا ديمقراطيا وطنيا قوامه الرؤية الوسطية والاستيعاب والقدرة الاحتوائية؟ إن الأحزاب في المجتمعات الديمقراطية غالبا ما تغير توجهاتها وطروحاتها بحسب التغير في ميول الناخبين واهتماماتهم، ولذلك تلعب استطلاعات الرأي العام دورا رئيسيا في تقرير اتجاه الحملات الانتخابية ورسائل المتبارين فيها. أما عندنا فإن الناخب ليس رقما مطروحا لأن الأحزاب تقارب موضوع الانتخابات بنفس طريقة مقاربتها لبقية نواحي العملية السياسية، أي من زاوية توزيع الحصص ومناطق النفوذ، وهو ما سيكون رصاصة الرحمة على ما تبقى من أمل بالمشروع الديمقراطي.

إن الانشطارات تحصل ليس إرضاء لإرادة جماهيرية أو محاباة لصندوق اقتراع، بل تحصل تعبيرا عن حالة الانكفاء على الذات وغلبة التراص داخل المجموعة الصغيرة الذي يكون منشدا بلاصق المصلحة الشخصية أو التزمت الآيديولوجي على التفاعل مع المجموعة الكبيرة. ويعمق من هذه الحالة شعور البعض بوجود مصادر بديلة للشرعية والقوة غير صندوق الاقتراع، فتحصل الانشقاقات أحيانا بوحي من امكانية مجموعة ما على استحصال الدعم الخارجي وحيث يكون تقاسم العائد بين الفئة القليلة أكثر ربحية، أو بفعل تصور انه سيخدم التقرب من مركز قوة اجتماعي أو ديني ليستثمر لاحقا في صراع التوازنات مع الآخرين. وإذا كان الانشطار يضعف الحكومة من حيث أنه يحرمها من الأرضية التضامنية اللازمة لتفعيل حركتها، فإنه يؤمّنها من خطر المحاسبة، لأنها ستكون بمواجهة كيانات هشة متصارعة منقسمة على نفسها الى الحد الذي تصبح معه إمكانية طرحها لرؤية بديلة أو برنامج بديل أمرا مستحيلا. الانشطارات السياسية في العراق تعبير عن أزمة مزمنة جذرها ثقافة سياسية منغلقة وسطحها نخبة سياسية مفككة وناتجها نظام سياسي لن يجد حلولا حقيقية لاستعصاءاته بقدر ما يعمق من تلك الاستعصاءات.