غسان شربل

يشفق العالم على لبنان. يرى في البلد الصغير تجربة تستحق الحياة والدعم. يرى فيه فرصة لتعايش الاختلافات في ظل القانون ورحاب الحرية. فرصة لتبادل الاعتراف. واحترام التباينات. واحترام المصالح. والخروج من وطأة التاريخ وولائمه الدموية. للبنان مكان طبيعي في عقل العالم وقلبه. نقول ذلك بغض النظر عن محاولات بعض الدول الكبرى أحياناً توظيف لبنان في ادوار تفوق طاقته وفي مهمات تتعارض وحقائق الجغرافيا والتاريخ.

يشفق العرب على لبنان. يرون فيه تجربة فريدة على أرضهم. اختباراً للتعددية في منطقة تفضل التشابه الكامل واللون الواحد. يرون فيه وعداً بالمستقبل. ويعرف العرب مخاطر تخريب المختبر اللبناني. وحجم الانتصار الذي تحققه اسرائيل إذا تحول لبنان الى مفاعل طلاق بدل ان يكون مصدراً لاشعاعات التعايش. يدركون مخاطر ان يفشل المسلم والمسيحي في التعايش في هذا البلد الصغير. يعرفون استحالة تعايش السني والشيعي في انحاء اخرى إذا تعذر عليهما التعايش على الملعب اللبناني.

يشفق العرب والعالم على لبنان وتغيب مشاعر هذه الشفقة لدى اللبنانيين أنفسهم. لا مبالغة في هذا الكلام ولا تسرع ولا انفعال. انني أشعر بخجل فظيع كلما ذهبت للقاء سياسي عربي واستقبلني قائلاً: laquo;ماذا تفعلون ببلدكم. نحن نريده نموذجاً وجامعة ومستشفى ومطبعة ومقصداً للسياحة وملاذاً. ماذا تفعلون به؟raquo;. سمعت هذا الكلام مرات عدة في الشهور الماضية. وكان الخجل يغمرني. لقد حولوا لبنان مصدراً للخجل وسبباً للارتباك والاعتذار الدائم.

كلما جاء مبعوث عربي ودولي لإقناع اللبنانيين بوقف اندفاعهم نحو الهاوية أشعر بالخجل. ينتابني الشعور نفسه كلما حاول مبعوث ترتيب لقاء بين زعيمين لبنانيين. كلما طاف مبعوث حاملاً بنوداً يغرقها الافرقاء اللبنانيون بشطارات واجتهادات من نوع شطارة المصر على الوقوع في الهاوية. مشهد كئيب. مشهد مريب. مشهد معيب. أشعر برغبة كاملة في الامحاء وأنا أرى سياسيين لبنانيين يغردون على شاشات الفضائيات ويقدمون باطلالاتهم البهية دليلاً قاطعاً على الفشل اللبناني. لا يعقل ان ينتج لبنان هذا القدر من التطبيل والتزمير والتجريح والتضليل والتزوير والردح الرخيص الذي لا يأخذ في الاعتبار مخاوف الناس وآلامها وما يتهدد لقمة عيشها وسلامتها.

استوقفني كلام الرئيس حسني مبارك أمس. حذر من انه في حال عدم تنفيذ المبادرة العربية laquo;فإن الكل سينفض يده عن لبنان ويمكن ان يضيع هذا البلد ولا يدري أحد كيف سيكون مستقبلهraquo;. ولفت الى ان المبادرة هي الورقة الأخيرة وإن لم يعمل اللبنانيون لإنجاحها laquo;فإن الموقف سيكون خطيراً جداً بالنسبة الى لبنان والمنطقة حولهraquo;. وهذا يعني بوضوح التخوف من انفجار النزاع في لبنان وانفجار النزاع عليه. ترافق هذا الكلام مع اختتام عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية جولة وساطة في لبنان أكدت حراجة وضع المريض اللبناني واصراره على مقاومة محاولات انقاذه.

خطير ان ييأس العرب من امكان منع لبنان من الانزلاق الى حرب أهلية يمكن ان تضخ مزيداً من عوامل التفجير في الشرايين المذهبية المتوترة اصلاً على مستوى الاقليم برمته. وفي هذه الحرب لن يكون اللبنانيون أكثر من وقود لنزاعات أكبر من بلدهم تتشابك فيها حروب الأدوار والحروب البديلة وتكون اسرائيل الكاسب الأكبر فيها مهما ادعى آخرون الانتصار. وخطير ان ييأس العالم من قدرته على منع اندلاع النار في المختبر اللبناني وان ينتقل الى الانشغال برسم سيناريوهات ضبطها والاكتفاء بعدم امتدادها الى مصالحه في المنطقة.

ولا تقل خطورة عن اليأس الخارجي ملامح يأس داخلي تزايد في الآونة الأخيرة. لقد تزايد الكلام عن ان لبنان شهد تغييرات عميقة وخطيرة تجعل من الصعب العودة الى الأدوية السابقة في معالجته. ثمة كلام عن انقلابات عميقة في موازين القوى وفي مشاعر الطوائف وخياراتها ترجح كفة الطلاق على التعايش وان مشكلة لبنان تكمن في ان الطلاق ممنوع. ثمة كلام عن تعذر قيام دولة في لبنان بعد التغييرات التي عاشها وانها ان قامت ستكون شبه دولة ينتظر بعض اللبنانيين في ظلها موعد الانهيار الجديد. ثمة كلام خطير يقوله سراً لبنانيون من اتجاهات متعددة ومفاده ان لبنان مجرد فكرة جميلة فاشلة. وانه محكوم بدورات الانهيار كلما اختلت الموازين في الداخل أو في الاقليم وان كل سلام فيه مجرد هدنة.

كلام كبير وخطير. والمشهد كئيب ومريب ومعيب.