خيرالله خيرالله

ظل السؤال في النهاية هل الرئيس بوش الابن جدي في تحقيق تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين... أم انه يأتي إلي الشرق الأوسط في السنة الأخيرة من ولايته الثانية والأخيرة كي يقول كلاما جميلا عن ضرورة زوال الاحتلال الإسرائيلي وقيام دولة فلسطينية ذات أراض علي تواصل فيما بينها؟

ربما يعتقد أن مثل هذا النوع من الكلام يضمن له مكانا مختلفا في كتب التاريخ غير المكان الذي حجزه سلفا لنفسه. انه المكان المخصص لذلك الرئيس الأمريكي الذي اتخذ قرارا باجتياح العراق من أجل نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، فإذا به يطلق العنان لانفلات كل أنواع الغرائز من عقالها. أخطر الغرائز التي أفلتها بوش تلك المرتبطة بالعصبيات المذهبية.

صحيح أنها المرة الأولي التي يلفظ فيها رئيس أمريكي كلمة احتلال في وصفه للوضع السائد بالضفة الغربية، لكن الصحيح أيضا أنه سبق لبوش الابن أن تحدث في يونيو - حزيران من العام 2002 عن دولة فلسطينية قابلة للحياة من دون أن يقرن كلامه بالأفعال. بقي كلامه لما يزيد علي خمس سنوات مجرد حبوب مسكنة للعرب والفلسطينيين وزعها عليهم في مرحلة كانت الولايات المتحدة تستعد فيها لاحتلال العراق. ويأتي بوش الابن إلي المنطقة الآن بعدما تبين له أن المكان الوحيد الذي يستطيع أن يحقق فيه انجازا ما هو فلسطين؟

أيا تكن الأسباب التي دفعت بوش الابن إلي المجيء إلي الشرق الأوسط وتأكيده غير مرة في رام الله أمام الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه عائد مجددا إلي المنطقة في بحر السنة قبل خروجه من البيت الأبيض، لا بد من ملاحظة تطور في غاية الأهمية علي الصعيد الفلسطيني.

يتمثل هذا التطور في أن الفلسطينيين يتصرفون للمرة الأولي بما يخدم مصلحتهم الحقيقية. يفعلون ذلك عن طريق ترتيب البيت الفلسطيني أولا بغض النظر عما إذا كانت حكومة ايهود أولمرت قادرة علي اتخاذ قرار جدي بالنسبة إلي السير في عملية السلام أم أن أولمرت سيتابع السير علي خطي سلفه أرييل شارون التي تصب في تدمير مؤسسات السلطة الفلسطينية وكل ما يمكن أن يساعد في قيام دولة فلسطينية مستقلة. لم يكتف شارون بين السنتين 2001 و2005 حين دخل في غيبوبة عميقة، لن يخرج منها سوي إلي الدنيا الأخري، بتدمير المؤسسات الأمنية الفلسطينية.

بل سعي بكل وقاحة إلي تدمير كل ما له علاقة بالمجتمع الفلسطيني، بما في ذلك المؤسسات المدنية التي كانت أيام الحكم الأردني للضفة الغربية قبل الخامس من يونيو - حزيران من العام 1967، أراد شارون تفكيك النسيج الاجتماعي في فلسطين، فاعتدي علي الدوائر الحكومية التي فيها السجلات الفلسطينية المتعلقة بالناس والممتلكات. أراد محو ذاكرة الشعب الفلسطيني من الوجود.

في زيارته الحالية، اكتشف الرئيس الأمريكي أن في فلسطين شعبا. وجد حدا أدني من التنظيم. وجد أن هناك محاولات جدية لاستعادة الحياة علي الرغم من ثقافة الموت التي حاولت حماس نشرها بين الفلسطينيين عن طريق العمل علي تغيير طبيعة المجتمع. امتلكت السلطة الوطنية الفلسطينية ما يكفي من الشجاعة لاستقبال الرئيس الأمريكي والترحيب به بما يليق بفلسطين والفلسطينيين. أدركت أن استقبال بوش الابن فرصة يجب عدم اضاعتها، ليس لأن الرجل رئيس القوة العظمي الوحيدة في العالم فحسب، بل لأن فلسطين تريد أيضا أن تظهر للعالم أنها مشروع دولة تستحق الحياة.

كانت زيارة الرئيس الأمريكي لرام الله مليئة بالايجابيات. إذا لم يحتف الفلسطينيون ببوش الابن بصفة كونه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، بمن يمكن أن يحتفوا؟ هل من رجل غيره في العالم يستطيع ممارسة ضغوط معينة علي إسرائيل من أجل التراجع عن سياستها العدوانية واقناعها بأن السلام في مصلحة كل شعوب المنطقة وفي مصلحة أمريكا نفسها؟ أو ليس مجيء الرئيس الأمريكي إلي رام الله اعترافا بأن الدولة الفلسطينية يمكن أن تبصر النور عاجلاً أم آجلاً؟ المهم أن الفلسطينيين حزموا أمرهم وتصرفوا بالطريقة التي يجب أن يتصرفوا بها انطلاقا من القضاء علي فوضي السلاح وعلي كل أنواع التجاوزات من منطلق أن في ذلك مصلحة فلسطينية بغض النظر عما سيفعله الاحتلال الإسرائيلي وما إذا كان سيستجيب للاستفاقة المفاجئة للرئيس الأمريكي. وما قد يكون أهم من ذلك أن السلطة الوطنية استفادت من درس غزة وتخلصت منوهم المصالحة بين فتح و حماس ورفضت أن تكون أسيرة هذه المصالحة التي تؤخر ولا تقدم.

لا يمكن لأي عاقل الاعتراض علي مصالحة بين فتح و حماس ، ولكن بشرط أن تعود غزة إلي حضن السلطة الوطنية الفلسطينية. لا معني لأي مصالحة من دون هذه العودة. علي العكس من ذلك، لو سقطت السلطة الوطنية في فخ شروط حماس ، لكان عليها أن ترفض استقبال الرئيس الأمريكي. حسنا فعلت السلطة عندما رفضت أن تكبل نفسها بشروط حماس وشعاراتها الفارغة وأن تعتبر الانقلاب الذي نفذته حماس علي الشرعية الفلسطينية، انقلابا علي الخط العقلاني والواقعي للسلطة الوطنية. أنها خطوة فلسطينية في الطريق الصحيح.

عندما يكون البيت الفلسطيني مضبوطا من داخل، لا يمكن إلا أن يصب ذلك في مصلحة القضية، صدق بوش الابن بوعوده أم لم يصدق، عاد إلي المنطقة قبل انتهاء ولايته أم لم يعد... تحلي بحد أدني من الجدية أو اختار التعرف عن كثب إلي الشرق الأوسط لزيادة معلوماته العامة عن المنطقة ليس إلاّ! .