المدينة المعروفة بباراتها وملاهيها ودور السينما تحولت الي مدينة ذكورية لا يدخلها إلا المطهرون

البصرة ـ حسن علاء الدين

بدأ الحديث عما يدور في مدينة البصرة من انتهاك لحقوق المرأة مؤخراً بعدما وصل الأمر إلي عدم استطاعة أغلب نساء المدينة من الظهور في الأماكن العامة، فهذه المدينة التي كانت معروفة بانفتاحها وتطورها وحياتها المدنية التي كانت تعد نموذجاً رائعاً للتحضر في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، تحولت إلي مدينة ذكورية لا يدخلها إلا المطهرون.
العديد من الأماكن في هذه المدينة كانت ملاذاً آمنا لمن يريد المتعة، المتعة الكاملة وبكل أشكالها، فشارع بشار الذي كان يتوسط مدينة البصرة ويشق منطقة البصرة القديمة، كان شارعاً مخصصاً لبائعات الهوي، وبكل أشكاله، الخمر والنساء و.... و...........، وشارع الوطني المعروف بباراته ونواديه الليلية وملاهيه ودور السينما، تحول إلي شارع ذكوري أيضاً، حتي محال بيع الملابس لم تعرض منذ خمس سنوات أي أزياء للنساء، واقتصرت الملابس النسائية بما يعرف بشارع (المغايز) الذي يتوسط السوق الرئيس ولكن علي وجل من خطوات مسجد قريب تابع لأحد الأحزاب الدينية، وعيون مفتوحة علي كل امرأة تدخل هذا السوق خوفاً من خروج شعرة واحدة من داخل حجابها (المستور).
وعلي الجانب الآخر أصدر السيد ميثاق الموسوي (الذي لا يعرف ارتباطه حتي الآن بأية جهة، فقد أعلن عن كونه مرجعياً دينياً ويجب علي الناس تقليده) فتوي تعلن حرمة عرض الملابس النسائية في الاسواق العامة، وخصوصاً الملابس الداخلية، بحجة أنها تثير الشباب وتدعو إلي الفسق...!
اختلفت ردود أفعال العامة علي هذه الفتوي بحسب مرجعية كل شخص، فعدها بعضهم بأنها صحيحة ويجب أن يعمل بها منـــــذ لحظة إفتائها، في حين أكـــــد آخرون علي أن هذه الفتوي هي من شخص مريض ويعاني من نقص في رجولته ودينه في الوقـــــــــت نفسه، فإذا كان قميـص نسائي معروض يثير رغبة هذا الشيخ الكبير وهو ما دعاه لإصدار هذه الفتوي، فما بال الشباب الذين يعيشون في الوسط الجامعي وحولهم آلاف البنات وبأشكال وموديلات شتي.
الموروث ما زال يلعب دوراً رئيساً في تغيير النظرة تجاه النساء، المجتمعات العربية ذات الحاضنة الأبوية، غسلت أدمغة النساء منذ الصغر وعممت فكرة مفادها: النساء كائنات مغرية لا يمكن السماح لها بالتصرف بتلقائية، فعزز الدين هذا المفهوم بسلطة الحجاب الذي يمكن ان نعزوه الي حماية العفة والتملص من الهوية الجنسية. ولربما كان المجتمع العراقي في مدينة البصرة الجنوبية نموذجاً جيداً للدلالة علي ذلك.
فهل ستبقي التقاليد عائقا أمام حرية النساء؟
باختصار اننا سنجد أنواعاً من الإجابات تنتقل من اقصي التطرف العلماني الي اقصي التطرف الديني، مارين بتملصات ذكية واخري انتهازيتها واضحة. من دون أن نجد أحداً يضع إصبعه علي ذلك الخرم الصغير المؤدي لفهم المنطلق فلسفياً أخلاقياً ـ إن صح التعبير.

التجنيد

ع.ح في ربيعها الثامن والعشرين تعمل كوافيرة، تحافظ علي التقاليد، لكنها تراعي الموضة، تقول لا أتمسك بالتقاليد عن قناعة بل لان ثقافة المجتمع تملي علي ذلك، أنا اعمل كوافيرة، الكثير من الناس حتي الاصدقاء يتصوروني سيئة السمعة، كان علي أن أخدع الشارع واحتقره عبر مظاهره .
لم يأت هذا التصور (الكوافيرة سيئة السمعة) في الجنوب من فراغ، فقد حاول حزب البعث السابق في العراق تجنيد كل الكوافيرات كعيون ساهرة تسجل ما تثرثر به النساء اللواتي يترددن عليهن، وما يمكن أن يفيد العمل الاستخباراتي ولو بحرف واحد...
فهناك قصة معروفة في مدينة الحي (220 كلم جنوب بغداد) وهو أن أحدهم اعتقل في وقت متأخر من الليل لأنه حلم بأن صدام حسين قد مات، وقد بث حلمه هذا عبر صالون للسيدات بعدما جاءت إحدي جيران هذا الرجل وثرثرت بحلمه أمام زبونات المحل، فما كان من الأجهزة الأمنية إلا أن قامت باعتقال هذا الرجل الذي لم يعرف مصيره حتي الآن منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي!
في حين أثبتت مدينة قلعة سكر، وهي ناحية صغيرة تقع علي نهر الغراف في محافظة ذي قار بأن للكوافيرات يداً في كتابة التقارير الحزبية، وقد اعتقل وقتل من جراء هذه التقارير الكثير من الشباب، وقد اكتشف هذا الأمر بعد الاجتياح الأمريكي للعراق في ربيع 2003 واقتحام دائرة المخابرات والأمن في المدينة، إذ تم العثور علي كافة الوثائق والتقارير، والمثير في الأمر، أن مدينة صغيرة كقلعة سكر، لا يتجاوز عدد سكانها 50 ألف نسمة، اكتشفت فيها قائمة بأسماء وكلاء الأمن يتجاوز عددهم 1500 وكيل ومن ضمنهم جميع كوافيرات المدينة!
الحياة العامة في العراق لا تتحكم بها النزعة العلمية في التفكير، لا يهتم الكثير من الناس هنا بالحقائق اكثر من اهتمامهم بالمظاهر البراقة، يقول سمسار بيع عقارات، يبدو انه تجاوز عتبة الاربعين لكن عينيه تبحث عن صيد بين المارات من أمام مكتبه، لا احد يكترث هنا ان كانت من تحافظ علي التقاليد سيئة السمعة ام لا، المهم أنها تحافظ من خلال المظهر علي التقاليد، أنا أميز بين النساء من تمتهن المعاشرة وبين تلك التي تعاني من كبت . طالبتان جامعتين، لم تتفتق أعمارهما عن الثانية والعشرين بعد، نموذج جارح لما يمكن للكبت ان يحدث من تأثيرات نفسية تؤدي الي الانقلاب علي الذات والكفر بكل القيم والمعايير التقليدية.
الطالبتان تحافظان اشد المحافظة علي مظهرهما المحتشم داخل الكلية إذ تتحاشيان فيها إقامة أية علاقات غرامية، لخوفهما من ان تطير كلمة من هنا او من هناك الي أهليهما، لكنهما في الوقت نفسه تحرصان علي إقامة علاقات حميمة جداّ مع شباب جامعيين وغير جامعيين حسب المعيار: ان يكونوا علي ثقافة ويتمتعون بقدر عال من التحررية التي تجعلهم لا يرون فيهن سوي نساء طموحات وراغبات في الحياة وكارهات لكل ما يقيد حريتهن الشخصية. تقول ف.ج التطلع إلي حياة جميلة ورومانسية مع أزواج يحترمون علاقاتنا وحرياتنا الشخصية هو ما نريده، نكره ذلك الزوج المسجون بالتقاليد، والذي لا يسمح لنا ان نتمتع بشبابنا لكن كل ذلك ضمن نطاق الأخلاق .
تقول الأخري نعاني من سطوة الاهل وعدم تفهمهم ان العالم تغير واننا اليوم في العام 2008 لا في الفترة العثمانية، أشقاؤنا من الذكور يقودون تعسفاً وانتهاكاً صارخاً لحقوقنا، وهم في الوقت نفسه يمارسون علاقات لا أخلاقية مع فتيات غير متعلمات .

الانتهاكات

كثير من الانتهاكات تحدث للنساء في العراق (الجديد)، ولم يقف القانون حازماً في الدفاع عنهن وعن حقوقهن، حقوق المرأة في العراق أصبحت ورقة سياسية في الصراع الدائر بين الساسة المتناقضين، (137) رقم قانون لو قيض له أن يري النور، لوأد أكثر من 80 عاماً من النضال النسوي العراقي لنيل الحقوق التي توجها قانون الحقوق المدنية عام 1958. الذي ألغي فيه التمييز الجنسي ضد المرأة وأعطاها حقوقاً مدنية عظيمة، القرار الصادر من مجلس الحكم المنحل المرقم ب (137) شرع علي خلفية دينية وطائفية، وارجع الحقوق المدنية الي مستوي الطائفة، ومن المعروف ان بعض الطوائف تبخس للمرأة حقاً كثيراً.
لم تكن زوبعة رفض القرار تمضي، حتي أشعلت المنظمات النسوية التحررية موجة جديدة من الاحتجاجات، هذه المرة بعد صدور مسودة الدستور الذي ارجع الحقوق المدنية للنساء الي التقاليد الدينية والطائفية ولم يعترف بالحقوق المدنية. ولم يفد بشيء احتجاجات المنظمات النسوية، سرعان ما عاد هذا القانون يخيم علي أجواء التحرر النسوية في العراق، حينما أُقر الدستور (الجديد)، فأعاد القضايا المدنية والتي غالباً ما تتعلق بالزواج والطلاق والإرث إلي مذاهب دينية ينتمون لها.
المعركة لا يمكن لها أن تقف ما دام هناك الكثير من الساسة يؤمنون بأن للمرأة مكانها الطبيعي: البيت وتربية الاطفال وخدمة الزوج ليس إلا.
سجلت منظمات الدفاع عن حقوق الانسان الكثير من الانتهاكات ضد حرية المراة في العراق من قبل الجماعات المسلحة في الجنوب والوسط العراقي، وتشير هذه التقارير الي ان الخلفية التي تجري وفقها هذه الانتهاكات هي (التشدد الديني) إزاء حرية المرأة. فقد امتلأت ساحات وشوارع المدينة بلافتات تحذر من الخروج من دون ارتداء الحجاب او (التبرج) علي حد قول من كتب هذه اللافتات... وهذا ما أثار حفيظة منظمات المجتمع المدني في العراق بشكل عام وفي مدينة البصرة بشكل خاص.
ويختبئ خلف هذه الشعارات القاتلة، المئات من القتلة والمجرمين، وبكل تأكيد لا يحركهم الرادع الديني، إلا أن هناك أجندات سياسية لا تنفذ إلا بهذه الطريقة، فقد وقت في منتصف التسعينيات المئات ممن وصفوهم فدائيو صدام بالعاهرات.
فتاة كانت تجلس في شرفتها التي تطل علي نهر دجلة في منطقة الأعظمية في بغداد، وكان يقف شاب لا تعرفه يلوح لها مساء كل يوم، فما يكون منها إلا أن تغلق نافذتها وتدخل إلي غرفتها للابتعاد عن مضايقات هذا الشاب.
بعد أيام أصدرت الحكومة العراقية قراراً سرياً لقتل كل العاهرات المعروفات في مناطقهن وبتنفيذ فدائيي صدام الذين كانوا يرتدون الملابس السوداء وملثمين بالسواد أيضاً، الغريب بالأمر أن هذا اللباس انتقل تلقائياً إلي ميليشيا جيش المهدي حتي أصدر مقتدي الصدر قراراً بمنع ارتداء اللون الأسود واستبداله بالأصفر (قد يكون هذا تبركاً بالبوذية)، فقام هذا الشاب باقتحام منزل هذه الفتاة مع مجموعة من فدائيي صدام وجرها إلي الشارع العام وذبحها أمام أعين الناس بحجة أنها تمارس العهر والدعارة. ومثل هذه الفتاة المئات ذبحن في شوارع المدينة وبالطريقة نفسها في تلك الحملة المشؤومة، التي أدت إلي ارتفاع ثمن العاهرات، وعلي الرجل أن يعمل ليوم او يومين إضافياً حتي يتمكن من سداد ثمن ليلة حمراء.
فلو كانت هذه الفتاة مدت يدها له وابتسمت فقط لعاشت الآن ورأت كيف تحول فدائيو صدام إلي جيش المهدي وغيره من الميليشيات وذبحت أيضاً بحجة أنها لم ترتد الحجاب.

136 قتيلة في 2007

فقد أعلنت الأجهزة الأمنية في مدينة البصرة عن مقتل 136 امرأة في مدينة البصرة خلال العام 2007 فقط، في حين أشار قائد شرطة البصرة اللواء الركن جليل خلف إلي أن 50 امرأة قتلت في شهري تشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الأول (ديسمبر) فقط من العام الماضي، وهذا ما دعا لجنة حقوق الإنسان في البرلمان العراقي إلي إقامة مؤتمر في نهاية الشهر الماضي للمطالبة بحقوق المرأة وممارسة حريتها علي كافة الصعد... إلا أن المتشددين الإسلاميين رفضوا هذه التصريحات فقتلوا امرأتين بعد هذا المؤتمر بيوم واحد!
الدين في العراق اصبح جزءاً من الموروث والتقاليد، لذا فهو لا ينفك من إطار العقليات البسيطة التي تجد في الموروث والتقليد سلطة مهمة في قمع النساء.
ك.م ، سيدة في الخمسين من العمر، تعارض بشدة مسألة التهاون بما جاءت به الشريعة فهي ترفض كل ما يسمي علي حد نظرتها (الحقوق المدنية للمرأة) تقول: علي المرأة الالتزام بما جاءت به الشريعة فقط، ولا تحلم بأكثر من ذلك.
أستاذة جامعية، تتطرف كثيراً فيما يخص حقوقها وتقول انني حتي لو فكرت في التحرر، لدي تكليفي الديني الذي يحكمني بمجموعة من القوانين علي ان أحترمها شئت أم أبيت. ما زالت النظرة تجاه المراة متخلفة وتتراجع يوماً بعد آخر، بسبب حملة التجهيل والتضليل التي تمارسها بعض الجهات، تقول محامية إن التقاليد وأعراف العشيرة ترضي العقليات الساذجة وتعطيها القوة والحق في القيمومة علي النساء من دون وجه حق سوي انهن نساء وهم رجال .
إلا أن المرأة الوحيدة التي طالبت بذكر اسمها بالكامل هي (هالة الجزائري) الموظفة في جامعة البصرة والتي لم ترتد الحجاب في يوم من الأيام، تقول هالة أنا لم اقتنع يوماً بارتداء الحجاب، فلماذا أرتديه لأن تافهاً لا يملك من التعليم أو الثقافة أي شيء يجبرني علي ارتدائه... الأمر ليس بهذه البساطة، فحينما ارتدي ما يعرف بالحجاب أو الستر يجب أن أكون مقتنعة به مائة بالمائة، وهذا ما لم يحدث لحد الآن لدي، لأني اعتقد بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة ولا يمكن أن أشعر في يوم من الأيام بأني عورة أو أن شعري عورة ويجب سترها .
قد تؤدي هذه الجرأة التي تحدثت بها هالة في مجتمع كالبصرة إلي الموت، وهي ما تزال موظفة في الجامعة وتقوم بعملها علي أكمل وجه، حسبما أفاد لصحيفتنا رئيسها في العمل ذو التوجه الديني، مشيرا إلي أن هذه حريتها، وأنا علي الرغم من تمسكي بالتقاليد والدينية، إلا أن الإسلام يقول (لكم دينكم ولي دين) وهي حرة في تصرفها بشرط أن لا تجرح مشاعر الآخرين ولا تقوم بأي أعمال سيئة .
ومن جانب آخر رفض رئيس أحد الأقسام في كلية الآداب في جامعة البصرة إدخال أية طالبة أو موظفة إلي بناية القسم ما لم ترتد الحجاب.
وحينما كنا بمكتب هذا الأستاذ الذي رفض أن نسجل له أي تصريح أو تعليق علي ما يقوم به داخل الحرم الجامعي، رنت نغمة موبايله الحديث (الله أكبر... سوف ندوسهم تحت أقدمنا.....) فعرفت أن هناك ميليشيا تقف وراءه... تحركه وتحميه، ولكن ممن؟

منظمة العفو

منظمة العفو الدولية في تقريرها الاخير عن حقوق المرأة في العراق توصي بـquot;دمج الاحتياجات الخاصة للمرأة دمجاً كاملاً في عملية التغيير. ومشاركتها الكاملة شرط ضروري لإعادة البناء الناجحة والسلمية في العراق، وهي أفضل ضمانة بأن تحقق عملية الإعمار حماية أفضل لحقوق المرأة في العراق .
وتري هذه المنظمة في إجحاف حقوق المرأة في الاختيارات الشخصية البحتة تحركاً خطيراً وسيعطي للجماعات المسلحة المنتشرة في جميع أنحاء العراق، الضوء الأخضر في انتهاك حقوق الانسان والنساء خصوصاً، لذا فهي لا تخفي قلقها وتطالب الحكومة بشكل صريح بـ تأييد النشر السريع لمراقبي حقوق الإنسان التابعين للأمم المتحدة وذلك كوسيلة لضمان احترام حقوق الإنسان في جميع أرجاء العراق .
التقاليد والموروث كمركب حركة جماعية يقيد حرية النساء وبإسمه ترتكب ابشع الانتهاكات ضدهن، لذا ما أرادته التقاليد من (المحافظة) علي النساء دفعهن الكبت والحرمان إلي شعورهن بالكراهية لهذه التقاليد والقيمين عليها.
وحسب معلومات غير مؤكدة، فقد دفعت تصرفات الأحزاب الدينية هذه إلي هجرة الكثير من النساء البصريات إلي خارج العراق، كالكويت مثلا، لأنها الدولة القريبة والتي ترحب غالباً بما يأتي من العراق! إلا أن أولاء النساء لم يعلن عن معارضة هذه الفتاوي أو التصرفات غير المقبولة حتي يبدأ العالم بمعرفة حقيقة ما يجري في هذه المدينة التي يحدها البحر من كل جانب، والسعودية وإيران والكويت...