سمير عطاالله

التقيت اول السنة الجارية السناتور جورج ماكغفرن، احد الديموقراطيين التاريخيين، لدى صديق في جنوب فرنسا. وقد اصبح السناتور ماكغفرن في الخامسة والثمانين، لكنه لا يزال يمارس العمل السياسي، ويعمل حاليا على كتاب عن حياة وعهد ابراهام لنكولن، الرئيس الذي حرر الرجل الابيض من السلوك الاجرامي الوحشي في استعباد الافارقة، والمتاجرة بالنفس البشرية.
وكان السناتور ماكغفرن قد اعد نداء طويلا يدعو فيه الى محاكمة جورج بوش وديك تشيني وعزلهما، واستعد لارساله الى quot;الواشنطن بوستquot; ولم يكن واثقا من ان صحيفة العاصمة سوف تنشره. ولكن بعد ايام قرأ الاميركيون النداء البالغ الحدة في الصحيفة كاملا. وقد سألت الشيخ الذي خسر معركة الرئاسة امام ريتشارد نيكسون عما حدث لاميركا، فاجاب ببساطة: quot;انتقلنا من رجال الى رجال، فانتقلنا من حال الى حالquot;.
وقال: quot;في عقد واحد خسرنا جون كينيدي ومارتن لوثر كينغ وروبرت كينيدي وبدأ بالظهور الرجال الماحلون: انتخبت اميركا رونالد ريغان، وها نحن الآن مع جورج بوش في اعمق ازمة سياسية منذ نهاية الحربquot;.
جورج بوش في الشرق الاوسط ليقدم الى المنطقة هديتها الاخيرة: دولة يهودية في اسرائيل، بعد 60 عاما من بدء quot;مشروع الوطن القوميquot; لليهود، ودولة غامضة في فلسطين غير محكومة بأي قرار دولي، من التقسيم الى 338. وبعد 30 عاما على كمب ديفيد الذي رفضه العرب في ادبياتهم التهريجية اللفظية على انه quot;الكمبquot; المنفصل، ها نحن امام quot;الكمبquot; مكتملا، والثمن المطلوب دولة يهودية لا يكون فيها مكان لاهل 1948، وحل لقضية اللاجئين يدفع العرب ثمنه مرتين: الاولى بالمال، والثانية بالتوطين.
الثمن الاول سوف يفرض على الدول الغنية، والثاني سوف يحدث زلزالا انسانيا (قبل القومي او الوطني او السياسي) في بلدين: الاردن ولبنان. في الاول، دولة قائمة ومؤسسات غير مقطعة واتفاق وطني غير عضوي. وهنا دولة عائمة مثل سفينة فقدت كل اشرعتها وصواريها وتُركت تحت رحمة القراصنة وسط البحر: كل يدعي احقية الدفة. والسفينة لا تعرف كيف ترفئ ولا اين.
اذا كان قد مضى 60 عاما على قيام الدولة اليهودية، فهذا يعني ان اقلية من الجيل الاول لا تزال هنا، وان الاكثرية الساحقة ولدت في مخيمات لبنان، حيث يختلط البؤس المرعب بالاهمال المتواصل وخفة الحكم ودولة لا يرى منها الفلسطينيون سوى العسكريين الذين يحيطون بمخيماتهم. وعندما حانت اللحظة السانحة في الماضي، قام تحالف طوعي بين البؤس اللبناني والبؤس الفلسطيني. وكنا لا نزال في مرحلة البؤس المدني، اي قبل ان يسلّم الفلسطينيون قرارهم الى الشيوخ المجاهدين ابي قتادة وابي عفص وابي محجن الذي يبدو اليوم رجل اعتدال وسماح امام شاكر العبسي، مقتولا او مبعوثا وحيا حيث اقتضاء الفتنة.
في هذا الزمن الصعب، المعقّد، الواقف على حافة المصائر، تقوم في لبنان دول الطوائف كما قامت عشية ضياع الاندلس.
ويتحدث الظاهرون في الصور عن اخطار التقسيم ويحذرون من التفكك، والحقيقة ان هذا زور كبير وزيغ فاجر لاننا تجاوزنا مرحلة التقسيم منذ زمن.
فالتقسيم الافظع ليس في حفر الخنادق بل في اقامة الجدران، سواء اكانت حجرية مثل جدار خروشوف وشارون، ام غير مرئية مثل جدار الكوريتين او جدار الصينين، الشعبية والوطنية.
الجدار الحجري يُفتت في ساعات وتباع حجارته مثل بطاقات البريد. بينما جدران الكره والحقد تقوم في النفوس وتبيت فيها كما تبيت الجراثيم في الارض. لقد تلوث كل شيء في لبنان، الارض والمياه والجو، وما عاد احد يصدق احدا او شيئا، ولا احد منا يجرؤ على القول ان الدولة قد هُدّت، ربما الى غير عودة، فما بقي شيء يعود في هذه الحرب البركانية التي تبيد كل خصب، وتحوّل ما ليس نارا فحما يملأ القلوب ويسد الرؤية.
اسوأ ظاهرة في الحرب الماضية لم تكن اراغن ستالين والـquot;M16quot; بل صحف الحرب وشعاراتها والتكابات على الجدران. تلك كانت الغازات السامة الحقيقية.
تفقد اميركا جون كينيدي ومارتن لوثر كينغ وروبرت كينيدي فيزحف رونالد ريغان. قلت للسناتور ماكغفرن ان اكثر المشاهد رعبا واثارة للفزع في لبنان كان مشهد quot;الحوار الوطنيquot; في مجلس النواب. الى جانب الزعماء الذين يمثلون طوائفهم وما هو ابعد منها الى الوطن بل حتى الى الامة، رأينا وجوها خالعة، لا تمثل سوى حالة الفقر والحنين التي صرنا الينا. فقد كان كثيرا، حتى على اللبنانيين الذين خسفت بهم الارض وهبط بهم الزمن، ان يروا quot;حوارهم الوطنيquot; وقد اوكل الى بعض وجوه المحل، ينوبون عن اجيال شاركت في صنع عصر النهضة العربي او عصر الاستقلال او العصر القومي.
انا من الذين تقلقهم فكرة العودة الى quot;طاولة الحوارquot; بعد كل هذا الترافض المتصاعد منذ الخروج من القاعة الكبرى. الامل الوحيد هو في حل مفروض، ينصف لبنان ويعدل في مسألة بقائه، لان الذين لا يملكون الحرية لا يملكون الحق. لذلك نقبل حلا منصفا مفروضا ndash; بالمعنى الادبي ndash; وليس بمعنى قوات الردع والقوات الدولية وجيوش الامم. ما هذه البقعة الصغيرة التي تحيط بها الاساطيل وتهدد المنطقة بالحرائق، كما يكرر الرئيس حسني مبارك، وهو يرسل المبعوث بعد المبعوث ويستضيف المؤتمر بعد المؤتمر، ولا يرى في الافق سوى الخوف من ضياع لبنان؟
ما هذا اللبنان الذي نعرضه على العالم؟ ما هذه الحالة الانتحارية؟ ما هذا التخلي الوطني والانساني والقومي؟ لماذا يبدو هذا البلد مثل حصان هوى يرفض القيام ولا ينتظر سوى الرصاصة القاتلة. او فرق الاعدام المتربصة لا تنتظر سوى اشارة الزناد؟
في احلك ايامه ومراحله ومآسيه، اظهر لبنان انه يرفض الموت كدولة، والغياب كوطن. ظل نوابه احياء لا يموتون الا بخواتم العمر. وظل رشيد كرامي وامين الجميل كل في خندقه لكنهما يعتمدان وسيطا واحدا هو فؤاد الترك، وقانونا واحدا، ودستورا واحدا.
لكن لبنان الذي دفعنا اليه الآن بالحرب الباردة، يقف على مشارف الغياب وليس على حافة الانهيار، كما يحذر حسني مبارك. ويحدث الغياب عندما يفقد المشتغلون حس الشفقة وبقايا الحكمة والشعور بحتميات الاخوة. ويتحول البلد اودية متقابلة تتحدث لغات مختلفة وتتفاوت فيها اوقات النور والظلمة.
وتصير الدولة مجموعة دول متهادنة لا رابط بينها سوى انتظار موعد الجولة التالية.