ليونيد ألكسندروفتش - سيبيريابيبر

الأزمة المتصاعدة في منطقة القوقاز بين روسيا و جورجيا والمرشحة للتصاعد أكثر بعد فوز الرئيس ساكاشفيلي في انتخابات الرئاسة الماضية،هذه الأزمة تعكس في حد ذاتها صراعا دوليا كبيرا على منطقة القوقاز كلها،هذه المنطقة التي تربط القارتين آسيا وأوروبا وتحتوي أرضها على ثروات طبيعية خيالية وخاصة مصادر الطاقة من النفط والغاز.
منذ أكثر من عشر سنوات مضت وبالتحديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وواشنطن تخطط للتغلغل في هذه المنطقة بهدف فرض هيمنتها عليها والاستئثار بثرواتها،ومن أجل هذا تدعم الانقلابات والاضطرابات والثورات الملونة التي تأتي بأنظمة موالية لها وتسعى لإفساد العلاقات مع روسيا،رغم أن علاقات روسيا بالمنطقة ودولها وشعوبها تاريخية وتعود لأكثر من خمسة قرون مضت وليست كما يعتقد البعض أنها بدأت في زمن الاتحاد السوفييتي، وجورجيا بالتحديد يربطها بروسيا علاقات تاريخية طويلة.
وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول صرح في أحد أحاديثه للقناة التلفزيونية الأولى في روسيا ان الهدف من التواجد الأميركي في جورجيا يتمثل في مساعدة الجانب الجورجي على ضمان الأمن في وادي بانكيسي. وأكد قائلا إن الحديث لا يدور عن إزاحة أو إبعاد أحد ما من هناك.

ولكن وزير الخارجية حرف الحقائق بعض الشيء. إذ لا يخفى على أحد أن المصالح الجيوإستراتيجية الروسية والأميركية تتضارب في منطقة ما وراء القوقاز وان صراع الدولتين من أجل السيطرة على موارد الطاقة في حوض بحر قزوين وطرق نقلها جعل المسألة القوقازية أكثر ارتباطا بالسياسة العالمية.
وتعتبر منطقة ما وراء القوقاز بما فيها جورجيا من المناطق الجيوبوليتيكية التي تحدد ميزان القوى على الصعيد العالمي. وتحتل روسيا في هذه المنطقة تاريخيا مواقع قوية بما فيه الكفاية. و جورجيا نفسها هي بلدة بنتها الدولة الروسية على ضفاف نهر تيريك في القرن السادس عشر بناء على طلب حكام شمال القوقاز وكانت واحدة من القلاع الروسية الأولى في هذه المنطقة.

ولجأت بعثات الأوديغيين والقبرطيين والأفاريين وغيرهم من الشعوب الأخرى الى روسيا لتدافع عنهم ضد الأتراك والفرس الذين أبعدوا شعوب القوقاز إلى المناطق الجبلية. وفي النصف الثاني من القرن الــ 18 أقبل القياصرة الجورجيون على التقارب الواضح مع الإمبراطورية الروسية باعتبارها حليفة جبارة لهم في التصدي لهجمات الأتراك والفرس.
ولم يكن توجه الروس نحو القوقاز مصحوبا بأي احتلال للأراضي وطرد السكان بالقوة. وما من بلد في العالم يتمتع بمثل تجربة روسيا الغنية للسياسة القوقازية. والأكثر من ذلك فإن حركة تقدم روسيا إلى القوقاز الخالية من سفك الدماء لا تعرف نظيرا لها في تاريخ أوربا الغربية.

جورجيا الآن ورئيسها ساكاشفيلي والشعب الجورجي كله يدركون جيدا أن موسكو هي أحد اللاعبين الرئيسيين في المنطقة. ولا شك في أن فرض السيطرة على laquo;موارد الطاقة الإستراتيجيةraquo; في المنطقة التي تشتمل على 16 دولة بما فيها جورجيا هو من أولويات السياسة الخارجية الأميركية واستراتيجيتها الواسعة في هذه المنطقة.

وتضم هذه المنطقة المسطح المائي لبحر قزوين بأكمله وحوالي 90 بالمئة من أراضي إيران التي تربط بحر قزوين بالخليج العربي والمحيط الهندي. وقد سبق أن أطلق برجينسكي الخبير السياسي الأميركي المعروف على هذه المنطقة laquo;بلقان أوراسياraquo;. وتدل هذه التسمية على الدور المحوري للقوقاز ومنطقة ما وراء القوقاز في السيطرة على أوراسيا.
والأكثر من ذلك يرى بريجنسكي في كتابه الشهير laquo;رقعة الشطرنج العظيمةraquo; إن laquo;مركز الهيمنة على العالمraquo; يقع هنا بالذات في منطقة القوقاز التي تربط أوروبا بآسيا وتحوي في باطنها ثروات طبيعية هائلة وعلى رأسها مصادر الطاقة من الغاز والنفط . ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تقبل بواقع تبعيتها للاعبين الآخرين على المسرح الدولي فيما يتعلق بموارد الطاقة لأنها تدرك أن مثل هذه التبعية قد تكلفها غاليا جدا في يوم من الأيام.
وجاء الاعتراف بهذه الحقيقة في تقرير تقدم به مجلس الشؤون الدولية في واشنطن منذ ربيع عام 2001 حيث يشير إلى أن أميركا قد وصلت إلى حافة اخطر أزمات الطاقة في تاريخها. والأكثر من ذلك لم يبق للولايات المتحدة سوى 3 أو 5 سنوات لتسوية مشاكلها في مجال الطاقة. ويتوصل واضعو تقرير مجلس الشؤون الدولية إلى استنتاج عام مفاده أن الولايات المتحدة عاجزة عن تحقيق الاستقلال في مجال الطاقة.
وتركز السياسة الخارجية الأميركية إزاء هذه المنطقة على تقديم المعونة المالية إلى دول ما وراء القوقاز وآسيا الوسطى لكي تتمكن من إيصال ثرواتها من الغاز والنفط إلى الأسواق الدولية دون المرور بروسيا وحرمان الأخيرة من احتكار نقل النفط. وقال الأميركي جون روكفلر إن من يسيطر على وسائل نقل النفط يسيطر في الوقت نفسه على استخراجه وتكريره. وهذا صحيح خاصة بالنسبة لنفط قزوين.
فحقول المنطقة بعيدة عن المحيطات. وميزة روسيا الجيوسياسية الرئيسية فيما يتعلق بنقل نفط قزوين هي أنها تملك أكبر شبكة لأنابيب النفط في العالم. إذ يعود إلى نقل المحروقات بواسطة خطوط الأنابيب 30 بالمئة من تداول روسيا التجاري كله. ويبلغ الطول الإجمالي لخطوط الأنابيب الأساسية الروسية 217 ألف كيلومتر. ويعتبر خط تنغيز ـ نوفوروسيسك اليوم الخط الرئيسي لتصدير نفط قزوين.
في المستقبل القريب ستشهد منطقة ما وراء القوقاز تنافسا شديدا بين كبريات دول العالم. وليست الأحداث التي نشهدها اليوم سوى مقدمة للعب الجيوبوليتيكي الرئيسي في المنطقة. ولكنه سيكون من الأفضل بالنسبة للجميع إذا تفادت الأطراف المشاركة في اللعب فكرة انتصار طرف على الآخر والاستحواذ على الثروات وحرمان الآخرين منها.
ومن المهم ان تدرك موسكو وواشنطن وتبليسي على السواء الشيء الرئيسي وهو أن أيا منها لن يتمكن من تحقيق الهدف المنشود بدون الاستقرار والسلام في منطقة القوقاز.

وبالنسبة للولايات المتحدة فإن هدفها هو نفط بحر قزوين. ولكن مشاريع استخراجه ونقله لا تثير حماسا كبيرا لدى ممثلي قطاع الاستثمار الخاص الأميركي وسبب ذلك بسيط للغاية وهو غياب الاستقرار في المنطقة. أما هدف روسيا وجورجيا الرئيسي فيتمثل في مكافحة النزعة الانفصالية والحفاظ على وحدة أراضيهما.

علما بأن المهمة الرئيسية المشتركة للجميع هي مكافحة الإرهاب الدولي على الصعيد الإقليمي. بيد أن هذه الأهداف لا يمكن بلوغها إلا بشرط التفاعل الوثيق بين روسيا وأميركا و جورجيا. ونأمل بأن ادراك هذه الحقيقة بالذات سيلعب دور العامل المساعد على تعزيز الاستقرار في العلاقات بين الأطراف ويزيل التوتر بين أضلاع هذا المثلث.