موفق الربيعي - لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست

لا تزال الحكومة العراقية مأزومة، وفي العراق كما في الولايات المتحدة الأميركية، فقد كثر الحديث عن الحاجة الملحة للتوصل إلى مصالحة سياسية. فما الذي تعنيه هذه المصالحة؟ المقصود بها أن تتوصل الأغلبية الشيعية، والمسلمون السُنة والأكراد معاً، إلى وسيلة مَّا لحكم جماعي على المستوى القومي للبلاد. وبصفتي مستشاراً أمنياً لرأس الحكومة العراقية منذ مارس من عام 2004، فقد أسهمت في تطور التجربة الديمقراطية في بلادي. وعلى رغم ثنائي على أداء الحكومة ودعمي القوي لها، إلا أنني أدرك مدى صعوبة تحقيق الأهداف السياسية للمجموعات العراقية الرئيسية الثلاث، في ظل نظام الدولة المركزية الأحادية.
وبسبب هذه الصعوبة فقد تعذّر عملياً التوصل إلى إجماع سياسي حول عدد من القضايا الأساسية المهمة. فمن ناحية هناك الأهداف الخاصة بالتحالف الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية، وهي لابد من إدماجها على نحو مَّا، فيما تتوصل إليه شتى الأطراف هذه. ثم هناك تدخلات القوى الإقليمية، لاسيما إيران والمملكة العربية السعودية فيما يحدث داخل العراق، إضافة إلى انعكاس توتراتها الطائفية الخاصة بها على مجريات الأحداث في العراق. ويضاف إلى هذين العاملين، غياب الأحزاب والقيادة السياسية الوطنية العراقية، القادرة على ممارسة التأثير على القطاع الأوسع من المواطنين. وهذا ما يزيد الأمر تعقيداً وصعوبة.

وعلى وجه العموم، فإن المنظور الذي يرى به الشيعة مستقبلهم، يقوم على quot;حقينquot; أساسيين في اعتقادهم. أولهما أن تمارس السلطة من قبل الأغلبية السياسية في البلاد، عبر السيطرة على المؤسسات الحكومية. أما ثانيهما فهو استئصال ظاهرة التمييز الطائفي المؤسسي. أما الأكراد فينظرون إلى مستقبلهم على أساس quot;حقوقهمquot; اللغوية والثقافية والمالية، إلى جانب بسط سيطرتهم على الموارد الطبيعية الواقعة في حدود إقليم كردستان. وفي الجهة الثالثة هناك المسلمون السُنة العرب، الذين يواصلون مقاومتهم لخسارتهم لنفوذهم وسلطتهم، إلى جانب خوفهم من الثأر والانتقام منهم، عقاباً لهم على أخطائهم السابقة بحق الآخرين. ويندرج ضمن هذا أيضاً، الخوف من ممارسات تمييز عكسي ضدهم.

وعلى أساس هذه الخلفية، فإن الملاحظ أن النظام السياسي المعمول به حالياً، يقوم على رؤية ديمقراطية تعددية سياسية، تعجز -رغم بهائها وإيجابيتها- عن التصدي لهذا الصدع الثلاثي الأقطاب. ومما يؤخذ على هذا النظام، تجاهله للقضايا والتعقيدات الكامنة وراء الخلافات، وتوقعه لحدوث إجماع سياسي، بمجرد سن تشريعات دستورية ليبرالية الطابع.
والحقيقة أنه لاسبيل لترسخ جذور الديمقراطية التعددية، ما لم يعترف النظام السياسي، ويأخذ في اعتباره بكل هذه المخاوف والتطلعات التي تعبر عنها هذه المجموعات العراقية الثلاث. وليس من سبيل لحل هذه الخلافات، سوى إقامة نظام فاعل للفيدرالية الإقليمية، يتسم بالوضوح والقبول المتبادل لتوزيع السلطة بين الأقاليم والحكومة المركزية. ويصب هذا النظام في مصلحة العراقيين قاطبة، إن كان للعراق أن يتجنب ويلات التشرذم والانقسام، أو الانزلاق إلى مدى أبعد في الاحتراب الأهلي.
وفي إنشاء نظام سياسي جديد فحسب، بين هذه الكيانات العراقية الرئيسية، يكون ممكناً قيام دولة عراقية قادرة على الاستقرار والبقاء. والشرط الرئيسي لإحراز نجاح كهذا، هو أن تميل كفة توازن السلطة في البلاد، إلى جانب الأقاليم في كافة القضايا، دون ما أي تفريط أو تهاون في وحدة الدولة أو تماسكها. وينبغي للمؤسسات المركزية أن تستمد مشروعيتها من السلطات التي تبدي الكيانات العرقية الثلاث المذكورة، استعداداً لمنحها إياها. ومما لاريب فيه أن العراق في أمسِّ الحاجة لوقت، يتمكن فيه كل من الشيعة والأكراد من ممارسة السيطرة السياسية على مصائرهم، في ذات الوقت الذي ينعم فيه السنة العرب بالأمان، وتتبدد فيه مخاوفهم من استبداد الأغلبية السياسية عليهم.
وربما تختلف وتتباين صيغة العراق الفيدرالي هذه، إلا أن من الواجب أن تسمح بإحالة جميع السلطات المحلية تقريباً للأقاليم، التي يجب تمويلها بحصص ونسب مقدرة من العائدات النفطية، توزع على أساس الكثافة السكانية لكل إقليم. وإلى ذلك توكل للحكومة الفيدرالية، تلك المهام والمسؤوليات التي لا تتجاوز حدود ما يقع على عاتق الحكومات المركزية عادةً، من سياسات خارجية -بما فيها الشؤون الدولية بالطبع- والمسؤوليات الدفاعية، والسياسات المالية والمصرفية. وفي ظل نظام كهذا، يقع على عاتق البرلمانات والأجهزة التنفيذية الإقليمية، واجب ممارسة الحكم في مستواه المحلي الإقليمي، على أن يتولى برلمان فيدرالي جديد له مجلس أعلى، إدارة الحكم في مستواه القومي.

ويتوقع أيضاً أن تسمح هذه البنية السياسية الإقليمية، بتطوير السياسات الدينية والثقافية والتعليمية، الأكثر توافقاً وملاءمة لسكان الأقاليم، من تلك السياسات التي تضعها الحكومة المركزية. وفي الاتجاه نفسه، يتوقع لإطار السياسات الاقتصادية الإقليمية، أن يبدو أكثر توافقاً وانسجاماً، مع الأنماط والأسواق التجارية التقليدية التي درج عليها المواطنون في أقاليمهم.
وتشير الجغرافيا السياسية للعراق، إلى ترجيح تقسيمه إلى خمس وحدات فيدرالية. أولاها quot;محافظة كردستانquot;، بما فيها كردستان الحالية وما حولها. وثانيتها quot;المحافظة الغربيةquot;، بما فيها محافظة الموصل وأعالي نهري دجلة والفرات. ثالثتها quot;محافظة الكوفةquot; التي تشمل محليات وسط الفرات. رابعتها quot;محافظة البصرةquot; بما فيها المناطق الدنيا من نهري دجلة والفرات. ثم خامستها وأخيراً quot;محافظة بغدادquot; التي تشمل منطقة بغداد الكبرى، على أنه يمكن تضمين أجزاء محليات ديالى وصلاح الدين إليها. إلى ذلك يمنح إقليم كردستان وضعاً دستورياً خاصاً، باعتباره منطقة لها هويتها الخاصة، وثقافتها ومجتمعها الفريدان، على أن يكون هذا الوضع شبيهاً بذلك الذي تتمتع به quot;كيبكquot; الكندية على سبيل المثال.
أما فيما يتصل بالهوية الوطنية العراقية الجديدة، فهذه يتوقع لها أن تتبلور وتتشكل على مر السنين، كنتيجة طبيعية للمشاركة الجماعية السلمية، القائمة على الاحترام المتبادل، في شؤون الحكم والنهوض القومي، وليس بأدوات الترهيب والخوف، كما كانت تمارس في ماضي القهر والاستبداد السياسي.
على أن الإجماع السياسي العراقي المنشود، إنما يقوم في الأساس، على خلفية استفتاء شعبي عام، على صيغة إصلاحية دستورية. ولكل من الكيانات العراقية قادتها المنوط بهم واجب تحقيق هذا الإجماع السياسي المنشود. وها قد حانت لحظة الفعل القيادي لهؤلاء.