روجر كوهين - نيويورك تايمز

لم يصِب أي من الساسة الأميركيين في نظرته إزاء العراق في أي وقت من الأوقات، إلا أن السيناتور جون ماكين يعد أقلهم خطأً رغم ذلك. فقد كان سباقاً في رؤيته لثغرات الحرب، مما دفعه إلى ممارسة الضغط باتجاه زيادة عدد القوات. وبسبب ذلك السبق، فقد كان في مقدمة المؤيدين لرفع مستوى القوات بمعدل 30 ألف جندي إضافي في العام الماضي، مع العلم أنها الزيادة التي آتت ثمارها وتأثيرها على مسار الأوضاع الأمنية في العراق.

وقد يرى البعض مصيباً، تواضع هذه النتائج التي تحققت حتى الآن. ذلك أن معدلات العنف قد عاودت ارتفاعها خلال هذا الشهر، بينما لا يزال التقدم السياسي العراقي يتسم بالبطء. ولكن كيف لهذا التقدم أن يُحرَز بين عشية وضحاها، في مجتمع ظل محكوماً بالرعب والترهيب لعدة عقود خلت، وها هو قد تحرر للتو؟ وعلى رغم ذلك فقد انخفض معدل العنف خلال شهر ديسمبر المنصرم بنسبة 60 في المئة عما كان عليه في الأشهر السابقة من العام الماضي، بينما بدأت عودة الكثير من اللاجئين العراقيين إلى بلادهم. وقد يقول قائل إن هذه العودة التي نتحدث عنها، ليست سوى قطرة من محيط 2.2 مليون من الذين أرغموا على الفرار هرباً من جحيم الحرب. بيد أن من يحلم برؤية عودة عشرات الآلاف من هؤلاء إلى العراق، فإن عليه أن يدرك أن تدفقات اللاجئين الكبيرة باتجاه الوطن، لا تتحقق إلا عندما يلوح لهم بريق الأمل والفأل في سماء وطنهم. وهذا ما يفسر عودة ما يزيد على 4 ملايين لاجئ أفغاني إلى ديارهم عقب الإطاحة بنظام حركة quot;طالبانquot;.

وخلافاً لاستحالة عودة من قضوا نحبهم في دوامة العنف العراقي إلى الحياة مرة أخرى، فها هو السيناتور جون ماكين وقد عاد إلى الحياة السياسية، بعد بيات شتوي دام لمدة ستة أشهر بالتمام والكمال. والسبب الرئيسي وراء هذا الموت السياسي لماكين خلال الفترة المذكورة، هو تأييده السابق لسياسات بوش في العراق. أما عودته القوية الملحوظة إلى الحياة السياسية، بل وتقدمه على منافسيه المرشحين الرئاسيين quot;الجمهوريينquot;، حسبما أشارت آخر استطلاعات الرأي العام الانتخابي التي أجريت، فمردّها إلى التحول الذي طرأ على مواقفه إزاء تلك السياسات.

وفي الحقيقة فقد زلزل ذلك التحول المعادلة السياسية كلها. فعلى رغم تراجع مؤشرات الأمل العراقي، ظل ماكين ثابتاً لا تتزلزل أقدامه ولا يتلجلج في مواقفه منها. وهي ميزة لم يشاركه فيها إلا منافسه quot;الديمقراطيquot; السيناتور باراك أوباما، خاصة في معارضة هذا الأخير لها، بين كافة المرشحين الرئاسيين البارزين في المعركة الانتخابية الجارية حالياً.

وفي الوقت نفسه فقد تمكنت القضايا الاقتصادية المثارة في هذه المعركة نوعاً مَّا، من إبعاد العراق نسبياً عن محور اهتمامات الشارع الأميركي. وعلى سبيل المثال، فإن الفوز الذي حققه quot;مت رومنيquot; في ولاية ميتشجان على منافسه جون ماكين في معركة انتخابات الترشيح الأولية هذه، إنما يعود في الأساس إلى تمكن الأول من ابتكار معالجات سريعة وحاسمة لمشكلة ارتفاع معدلات البطالة في الولاية، وخفضها بنسبة 7.4 في المئة، وهي الحلول التي لم يتأتَّ لجون ماكين تقديمها للناخبين.

وهكذا اختارت ثلاث ولايات ثلاثة من أميز المرشحين الرئاسيين quot;الجمهوريينquot;: بفوز مايك هاكابي، ذي النزعة الاجتماعية المحافظة في ولاية quot;أيواquot;، وفوز جون ماكين في ولاية نيوهامشير بدعم الناخبين المستقلين، إضافة إلى فوز مت رومني بولاية ميتشجان، مستخدماً في ذلك صورة quot;المدير التنفيذيquot; التي قدم بها نفسه إلى ناخبيه. غير أن الملاحظ هو الانقسام الذي ضرب صفوف حزب الرئيس بوش. وبسبب هذا الصدع quot;الجمهوريquot;، فقد ساد الاعتقاد بأن الهزيمة الذاتية التي لحقت بالحزب quot;الديمقراطيquot; في انتخابات عام 2004، ستكون هذه المرة من نصيب الحزب quot;الجمهوريquot;. بيد أنه وعلى حد ملاحظة نورمان أورنشتاين من معهد quot;أميركان إنتربرايزquot; فإن الذي لاشك فيه هو أن المرشح quot;الجمهوريquot; الوحيد الذي يثير قلق quot;الديمقراطيينquot;، هو جون ماكين. ومصدر ذلك القلق، عدم معرفتهم بمدى احتمالات تأثيره على الناخبين. وللحقيقة فإن سحر جون ماكين للناخبين المستقلين بالذات، الذي يقدر بنسبة تتراوح بين 10 إلى 30 في المئة على المستوى القومي العام، إنما يعود إلى تضافر مواقفه السياسية وجاذبيته الشخصية معاً. ومما يزيد من ذلك السحر، استعداده للتصدي لمشكلة التغير المناخي، ولمساندة قضايا المهاجرين، فضلاً عن تمثيله القانوني لسجناء الحرب. ومن المفهوم بالطبع أن هذا السحر يتحقق على حساب المعارضة القوية التي يلقاها داخل حزبه quot;الجمهوريquot;. ثم إن جون ماكين ليس لافتة للسياسات والشعارات، وإنما هو إنسان من لحم ودم يعيش بين الناس. وخلافاً لما لم يتأتَّ مطلقاً للرئيس بوش، فقد عاد ماكين إلى وطنه بعد مدة تزيد على خمس سنوات، أمضاها في سجون الحرب الفيتنامية. ولم يكن ثمة سبب واحد يدعو لذكر كل هذا، لو صح أن تأييده للحرب على العراق قد جاء خصماً على سيرته السياسية. فقد أثبتت الأيام عكس ذلك تماماً. والدليل أنه فاز في ولاية نيوهامشير بفضل دعم الناخبين المستقلين له، بكل ما تعنيه أصوات هؤلاء من أهمية بالغة في المعركة الانتخابية هناك. ومما يعرف عن ماكين قدرته على تحدي التنميط والتمرد عليه. والصحيح أن تأييد ماكين للحرب، إنما بني على مواقفه الثابتة في رفضه للطغيان والاستبداد. وفي العراق لم يكن صدام حسين مجرد طاغية فحسب، على حد ملاحظة الكاتب نك كوهين في كتابه quot;ما الذي تبقىquot;؟ وهو الكتاب الذي تناول فيه المؤلف ما وصفه بالنفاق الليبرالي في العراق، بل كان صدام تجسيداً حياً وحقيقياً للفاشية القائمة على نظام الحزب الواحد، والجيش العدواني المستعد لشن حروب وغزوات لم تملها الضرورة على دول الجوار. وقد بلغ عدد ضحايا ماكينة الإبادة الجماعية لذلك النظام، ما يصل إلى 400 ألف من العراقيين، إضافة إلى مصرع نحو مليوني مواطن آخرين في كل من حربيه الكويتية والإيرانية. فأيهما أكثر إثارة للاهتمام يا ترى: طيش بوش وهرولته نحو الحرب في العراق، أم إنقاذه لحياة نحو 26 مليون عراقي، من خطر طاغية صاغ نفسه على شاكلة هتلر وستالين؟

وعلى رغم تحفظاتي على جون ماكين، وعدم تفضيلي له بين المرشحين الرئاسيين لأسباب عديدة، إلا أنه رقمٌ لا يمكن تخطيه في هذه اللحظة الحاسمة من وضع أميركا في المسرح الدولي.