مسعود ضاهر

مع بدء الزيارة الجديدة للأمين العام لجامعة الدول العربية إلى بيروت للتشاور مجدداً في كيفية تنفيذ المبادرة العربية، أوحت مصادر إعلامية بوجود ضغوط قوية على قوى النزاع، المحلية والإقليمية الداعمة لها، لإنجاح المبادرة العربية باعتبارها تمثل إرادة الأسرة الدولية. وحذرت من تداعيات سلبية لاستمرار أزمة لبنان على القمة العربية المزمع عقدها بدمشق في مارس/ آذار 2008.

وفي غمرة البحث عن حلول عربية ودولية طال انتظارها لإنهاء الأزمة اللبنانية، اجتاحت لبنان موجة من الصقيع أدت إلى مقتل ثلاثة مواطنين لبنانيين. وتطال أزمات الرغيف والتدفئة والكهرباء شرائح واسعة من اللبنانيين الذين يعيشون على خط الفقر أو دونه. وتستعد الحركة النقابية للقيام بتحركات مطلبية واسعة لقطع الطرقات، والتظاهر، والاعتصام أمام المؤسسات الرسمية.

حق الإضراب والاعتصام والتظاهر مشروع يكفله الدستور اللبناني. لكن اللبنانيين يخشون الاستغلال السياسي لهذه التحركات بحيث تتحول إلى كرة من الثلج لا يمكن إيقافها عند حدود التظاهر السلمي المشروع. وخلال سنوات طويلة وليس فقط في الأزمة الحالية، لم تبد الحكومات اللبنانية المتعاقبة أي اهتمام جدي بشؤون اللبنانيين من الطبقات الوسطى والفقيرة. على العكس من ذلك، أفسحت المجال للفساد الإداري والمالي والثراء غير المشروع على حساب إفقار اللبنانيين. فارتفع الدين العام إلى أكثر من 45 مليار دولار من دون أن يوظف منه ولو نسبة ضئيلة في مشاريع الإنتاج والتنمية التي تخفف من وطأة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة، وتحدّ من سيل الهجرة المتزايد من جميع الطوائف والمناطق.

كان خروج الفقراء والمهمشين اللبنانيين إلى الشارع منتظراً منذ سنوات طويلة، وكان من أول واجبات النقابات العمالية أن تدافع عن لقمة عيش اللبنانيين، وتمارس الاحتجاج اليومي ضد التكلفة المتزايدة لقطاعات الكهرباء، والتدفئة، والمحروقات، والتعليم، والصحة، والسكن، والعمل وغيرها. لكن الغالبية الساحقة من القيادات النقابية كانت قد تسيست منذ زمن بعيد، وبرز عليها الترهل من جهة، والاصطفاف الطائفي والمذهبي من جهة أخرى، فلم تعد مظاهراتها المطلبية الهزيلة قادرة على مواجهة قوى التسلط والفساد بعد أن تحول عدد من قادتها إلى طرف ملحق بالقوى السياسية. وتقاعست عن رفع شعارات مطلبية ومعيشية محقة وجامعة، تساهم في تحقيق الوحدة الوطنية بين اللبنانيين والتي تشكل حجر الزاوية في إعادة توحيد لبنان على أسس جديدة تتلاءم مع طبيعة عصر العولمة وتحدياتها الكبيرة. وحين ابتلي اللبنانيون بفساد النظام السياسي بكامل مكوناته، كان من أول واجبات الحركة النقابية النزول إلى الشارع دفاعا عن مصالح جميع اللبنانيين كشعب موحد في وطن موحد.

لقد اختبر اللبنانيون جيدا أن الموالاة والمعارضة هما في ممارسة السلطة وجهان لعملة واحدة، فليس لدى الجانبين أي مشروع حقيقي لحل الأزمات المتفاقمة في لبنان أو للعمل العقلاني على منع انفجارها، لذلك، تبرز اليوم مخاطر كبيرة بعد نزول قوى شعبية إلى الشارع دفاعاً عن مطالبها. ومع وجود خوف مشروع من صدامات دموية مع القوى الأمنية، تبدو قوى السلطة والمعارضة كما لو كانت على قناعة تامة بأن القرار النقابي ملحق بالقرار السياسي، ومراقب بدقة. ويفسر بعض المحللين نزول اللبنانيين إلى الشارع بأنه نوع من التهويل بالتحركات الشعبية على خلفية مطالب محقة وضاغطة، من أجل تسريع الحلول السياسية، فالقوى السياسية المتنازعة بعيدة بالكامل عن مشكلات الطبقات الشعبية الاقتصادية والاجتماعية التي أوصلت عدداً من اللبنانيين إلى الموت جوعاً. ومن العار أن ينصرف زعماء الميليشيات والطوائف إلى الدفاع الشرس عن مصالحهم الشخصية والطائفية وفق تقاسم فاضح للحصص، في وقت تتزايد فيه الأزمات المعيشية مع تدهور حاد في قدرة اللبنانيين الشرائية. وقد يحقق الحوار في لبنان بعض التقدم على مستوى إعادة بناء السلطة ومؤسساتها على أسس مذهبية وليس طائفية فحسب. وهناك دول، إقليمية وعالمية، على استعداد لبذل مزيد من الوساطة بين الفرقاء اللبنانيين، وحثهم على التلاقي الثنائي أو الجماعي على طاولة حوار سياسي يغلب مصالح الطبقة السياسية المأزومة على حساب لبنان وشعبه. وقد تصبح الطبقة السياسية الفاسدة أكثر استعداداً لاستئناف الحوار في حال شعر قادتها بأن فراغ السلطة بات يشكل خطرا على مصالحها، وأن اللبنانيين سينزلون إلى الشارع بكثافة خوفاً من الموت جوعاً وبرداً، لذلك يشكل الحوار بين زعماء الطوائف اللبنانية مدخلاً ضرورياً جداً لكنه لم يعد كافياً لإيجاد حل عقلاني للأزمة اللبنانية. وقد يبادر هؤلاء إلى تبني خطة جامعة الدول العربية لأنها تندرج ظاهرياً في إطار سياسة ldquo;لا غالب ولا مغلوبrdquo;، إلا أنها، وفي ظروف ارتباك مسألة الهوية الوطنية اللبنانية من جهة، واستفحال الأزمة المعيشية من جهة أخرى، تشكل مدخلاً حقيقياً لوقف الفساد المستشري على مختلف الصعد. والمطلوب تعزيز الوحدة الداخلية على أسس وطنية وديمقراطية، ووقف كل النزاعات المذهبية أو الطائفية أو الميليشياوية، وأن يوافق البرلمان اللبناني على انتخاب فوري لرئيس جديد للجمهورية يدافع عن مصالح الشعب اللبناني الأساسية. ومن أول واجباته إخراج الحياة السياسية من حالة الجمود عبر حكومة وحدة وطنية أو حكومة انتقالية تجري انتخابات نيابية مبكرة تعيد تنشيط النظام البرلماني اللبناني على أسس جديدة تحيي الأمل لدى اللبنانيين في مستقبل وطنهم.

في حال قررت الحركة النقابية النزول إلى الشارع يضيق مجال المناورات السياسية لدى زعماء الطوائف، إذ يكفي هذه الطبقة السياسية الفاسدة أنها تحملت وزر تعطيل الحياة السياسية في لبنان لأكثر من عام، فهل تتحمل عار سفك دماء لبنانيين نزلوا إلى الشارع دفاعاً عن لقمة عيشهم وحقهم المشروع في حياة حرة كريمة؟