رضوان السيد

نصح العالم السعودي المعروف الشيخ عائض القرني علماء الدين الإسلامي بعدم الخوض في الشأن السياسي بما يؤدي إلى تسييس الدين، وهو أمرٌ ثبت أنه لا يجلب فائدةً للإسلام ولا للدولة والعمل السياسي فيها. وقد علَّق على ذلك الأستاذ الموريتاني المعروف عبدالله ولد أباه مؤيّداً ومُستحسِناً. ويذكّر ذلك كلُّه بأول مَنْ أطلق هذه الدعوة في الأزمنة الحديثة أعني الشيخ محمد عبده الذي لعن quot;ساسَ ويسوس وسائسquot;. بيد أنّ شكوى الشيخ الإمام ما كانت وقتَها من تدخُّل رجال الدين الإسلامي في السياسة، بل من تدخُّل السياسيين في الشأن الديني لجهة استغلال رجال الدين في دعم هذا الأمر أو ذاك بما يؤدي إلى إفساد الدين ورجالاته.

ولعلَّ ذلك كان وراء العودة لاستعمال مصطلح علماء السلطان أو فقهاء السلطان، أي الذين يعملون باسم الدين لخدمة غرضٍ سياسيٍ معيَّن لإحدى الجهات المسيطرة، وهم عندما يعملون لها إنما يخدمون ذاك الغَرَضَ وليس الدين. والذي أراه في كلّ الأحوال أنّ محمد عبده كان يتحدث في سياقٍ غير الذي يتحدث فيه وعنه الشيخ القرني، فالمشكلةُ إنما تقع في تشخيص الوضع وتكييفه أو تأويله. وما لم نصل إلى التشخيص السليم والصحيح؛ فإنَّ الأمر يظلُّ عُرْضةً للأخذ والردّ دون بلوغ الهدف المنشود.

في الأزمنة الكلاسيكية الإسلامية، كان هناك مجالان واضحان إلى حدٍ ما: المجال الديني الذي يعملُ فيه العلماء على اختلاف فئاتهم وفي طليعتهم الفقهاء والمتكلمون. أما المجالُ الآخرُ فهو المجالُ السياسي، والذي يعملُ فيه أولو الأمر والنهي الذين يرعَون الشأنَ العامّ. لقد كانت هناك مرجعيةٌ عليا واحدة هي المرجعيةُ الإسلاميةُ التي قامت في ظلّها دولةُ الخلافة. والمجالان اللذان ذكرْناهما يقومان ضمن الدولة أو مشروعها، والإمْرةُ فيهما -ولاشكّ- للقائمين على الشأن العامّ، لكنّ أهل الشأن العامّ مؤسِّسون وفاعلون في القضايا العامّة، بينما هم مشرفون أو حُرّاسٌ في الشأن الديني. ولذلك عرَّف الماورديُّ quot;الإمامةquot; (رئاسة الدولة) بأنها موضوعةٌ لخلافة النبوة في quot;حراسةquot; الدين وquot;سياسة الدنياquot;. فالسياسيون لا يتدخلون في تفاصيل الشأن الديني، وإنما يقومون على حفظ البيضة، والنظام العامّ؛ بينما يتدخَّل العلماءُ في تفاصيل الشأن العام، وإنما يصونون الشعائر والأوقاف وشؤون التعليم والقضاء والفتوى.

وقد ذكرتُ من قبل أنّ المجالين (أو المجال الديني على الخصوص) كانا واضحين؛ فالأدنى إلى الدقة القول إنه كان هناك تقسيمٌ للعمل، وكان الطرفان من القوة والمَنَعة والفعالية كلاً في مجاله؛ بحيث لا يتمكن أيٌّ منهما من تجاوُز الآخَر في مجاله أو يتعرض للتأزم والمُساءلة. وهذا ما حدث مع المأمون العباسي عندما أراد أن يفرضَ مقولة quot;خَلْق القرآنquot; على العلماء، وهي أمرٌ دينيٌّ بحتُ. وقد تصدَّى له في ذلك الإمام أحمد بن حنبل وزملاؤه، وقد كانوا يصرُّون على أنّ لأمير المؤمنين حقَّ السمع والطاعة، لكنْ ليس له أن يفرضَ عقيدةً معينةً على الناس. وقد راقبتُ في دراساتي عدة مُحاولات من الطرفين عبر التاريخ، كلاً من جانبه للتدخُّل في تفاصيل مجال عمل الجانب الآخَر. وقد ظلَّ المجال الدينيُّ حراً ومزدهراً في نطاقه، إلى أن نجح السلاطينُ العثمانيون في استيعاب الشأن الديني إلى حدٍ ما تحت عباءة quot;شيخ الإسلامquot; الذي احتضن الشأن الدينيَّ كلَّه باعتباره جزءاً من quot;جهاز الدولةquot; وليس تحت حراستها أو صيانتها فقط.

وشهد القرن التاسع عشر متغيّرات جمّةً وثوريةً؛ فقد ظهر تحت وطأة quot;صدمة الغربquot; مشروعٌ جديدٌ للدولة، تعرضتْ خلاله مشروعيتُها الإسلامية الكلاسيكية لتحدياتٍ بارزة. وبذلك ما عاد علماءُ مشيخة الإسلام، ولا الآخرون غير المُنْضوين تحتها مسلَّمي الولاء والطاعة والتأييد. وهكذا اتّجه رجالاتُ الدولة الإصلاحيون لمشاركتهم في المشورة وطلب الفتوى في الظواهر والمؤسسات الجديدة. فتطوَّرَ للعلماء المسلمين دورٌ جديدٌ كانوا قد هجروهُ أو حُرموا منه لقرونٍ طويلة. وما كان علماءُ المؤسَّسة التقليدية مؤهَّلين له على أيّ حال. وذلك لانّ المؤسَّسة ما طوَّرتْ نفسَها ورؤيتَها للعالَم كما تطوَّرت الأُمورُ لدى أرباب المشروع السياسي الجديد. ولهذا فالذي ظهر لدى العلماء الوعْيُ بالحاجة إليهم في شرعنة الأوضاع الجديدة، وليس الوعي بضرورات التطوير الذاتي في الرؤية والممارسة. وجاء محمد عبده في أواخر حقبة الإصلاح التي غصّت بالظواهر الجديدة، دونما تأهُّلٍ من جانب النخبة العالِمة للتعامُل معها. وقد كان محمد عبده في الحقيقة واحداً من القلّة التي وَعْتْ الشؤون الطارئة، وألحّتْ على ضرورة quot;الإصلاح الدينيquot;، وهذا معنى نفوره من الانشغالات السياسية لرجال الدين، لأنه رأى أنهم كانوا يُستخدمون فيها من جانب السياسيين، لا أكثر.

ومرةً أُخرى؛ فإنَّ الزمن الذي يتحدث فيه وعنه الشيخ عائض القرني زمنٌ مختلفٌ تماماً عن الأزمنة الكلاسيكية، وعن زمان محمد عبده. ذلك أنّ المؤسسة الدينية تعرَّضت لتحدياتٍ ضخمةٍ في السنوات الخمسين الأخيرة، بحيثُ يصعُبُ القولُ إنّ علماء المؤسَّسة يتدخلون في الشأن السياسي بطرائق غير ملائمة. ويمكنُ تحديدُ الخطّ الفاصل للمتغيرات التي نتحدث عنها بظهور الأصولية الإسلامية (من خارج المؤسسة الدينية الرسمية وشبه الرسمية)، والتي طوَّرتْ أُطروحةَ الدولة الإسلامية التي تُطبّق الشريعة. وهكذا تغير المفهوم القديم للفواصل والتمايُزات بين الشأنين الديني والسياسي، واتجه رجالاتُ quot;الإسلاميةquot; الجديدة للاستيلاء على الشأن العامّ باسم الإسلام بمفهومهم هُم (تطبيق الشريعة). وواجَهَ الأُصوليون في دعوتهم الجديدة هذه ومرةً واحدةً: الدولة الوطنية الحديثة، والمؤسَّسة الدينية التقليدية. ففي نظر الأُصوليين تُعتبر الدولةُ الحالية في عالم العرب والمسلمين متغربةً وعلمانيةً أو دهرية وجاهلية؛ أمّا علماءُ المؤسَّسة فهم فقهاء حيضٍ ونفاسٍ وشعائر. وقد بلغ من جَبَروت الدعوة الجديدة أنها سيطرت حتى على الوعْي التاريخي بالتجربة السياسية الإسلامية، فصار الإسلامُ في نظر الجميع ديناً ودنيا، مصحفاً وسيفاً. وهكذا كان على علماء المؤسسة التقليدية والذين فقدوا الكثير من أدوارهم العُرفية، أن يتخذوا موقفاً من أُطروحة الإسلاميين.

ولهذا فإنَّ عائض القرني، وعبدالله ولد أباه، عندما ينعيان على العلماء أو بعضهم تسييس الدين، إنما يخاطبان الجهةَ غير المسؤولة عن ذلك، وغير القادرة على تغيير ذلك. فالذين سيَّسوا الدين ليسوا من علماء المؤسسة الدينية الكبار؛ بل إنّ أكثرهم ليسوا من رجالات المؤسَّسة على الإطلاق. وها هو الدكتور (الطبيب) سيد إمام الشريف، الذي اتّخذ لنفسه صفةquot; مفتيquot; تنظيم quot;الجهادquot; في الماضي، يُوجِبُ الجهاد العنيف بالداخل الإسلامي أولاً، ثم يُحرِّمُهُ ثانياً (وهذه المرة بأدلة وحُجَج فقهاء المؤسَّسة)، بينما المفروض أنّ quot;الفتوىquot; من شأن رجالات المؤسسة والمذاهب الفقهية وحسْب. لقد غاب الفقهاءُ والعلماءُ الذين عرفتْهم تجربتانا الكلاسيكية والحديثة، ومَنْ بقي منهم ضعُفت حجيتُهُ، وذَبُلَ دورُه، وما من أحدٍ منهم يملك أو يستطيع القول إنّ أطروحةَ الدولة التي تُطبّق الشريعة هي جديدةٌ وواردةٌ مثل أُطروحة الدولة العلمانية أو الدهرية إنْ لم تكن أَجَدَّ وأشدَّ منها عبئاً على الإسلام والمسلمين!

ولستُ أرى خَطَراً في حديث رجل العلم الديني في الشأن العامّ؛ لكنْ بشرْط الوعي الآخَر، أي الوعي بمدنية الدولة في التجربة التاريخية لأمتنا وفي الحاضر، وإدراك الفواصل والتمايُزات بين المجالين الديني والسياسي. أمّا الذين قَهَرَهُم أو أَعْمى أبصارَهُم وبصائِرَهُم الطَرْحُ الأصولي لدولة الخلافة الجديدة أو دولة تطبيق الشريعة؛ فإنّ إخواننا هؤلاء لا تُفيدُ سياساتُهُم في شيء حتّى وإن كانوا يتمدَّحون بإسلامية أنظمتنا والسائدين فينا!