خالد القشطيني

مما تميزت به عهود أيام الخير في بغداد، المجالس الفكرية الخاصة، والتي نجد ما يماثلها في الكويت الآن، بما يسمونه بالديوانيات. كان من اشهرها ديوان محمود الدفتري.

كان الرجل يتمتع بقدر كبير من الاطلاع والذكاء، حتى ان ابنته لميس ذكرت بأنه عندما تجاوز التسعين سألته قبيل وفاته عن قصيدة نظمها الشاعر التركي رضا توفيق في مدحه. وما اذا كان يتذكر شيئا منها. فراح ينشدها بأصلها التركي، ولم يتوقف حتى افرغ عشرين بيتا منها.

كان مجلسه مرتعا للآدباء، وكثيرا ما احتدمت المناقشات بينهم. فالتجأ الى بدعة لطيفة. كان من هواياته تربية القطط. فاذا ما احتدم النقاش بين الحاضرين في الأمور السياسية، عمد الى مناداة قططه، laquo;ليلوة ، ليلوة، وينك يا ليلوة؟ براقش، وينك انت يا براقش؟ بش.. بش.. بش.. raquo;، تحضر البزازين فيشغل الجالسين بها ويتلطف الجو.

كان رحمه الله رجلا محبا للخير والسلام. وعز عليه ان يرى الشاعرين الاكبرين، الزهاوي والرصافي في خلاف مستمر، ولا يتكلمان مع بعضهما البعض. فرتب وليمة عشاء دعا إليها شلة من ادباء بغداد. كانت جلسة ادبية تاريخية بادر الحاضرون والغائبون الى تأريخها في الثامن من كانون الأول 1928. استهل الجلسة الزهاوي بقصيدة نمت عما في نفسه من روح الفكاهة:

* جمع الأديب الحر صبحي شملنا- في داره، أكرم بها من دار

* لو لم تكن لي لحية وسدارة - لحسبتني طيرا من الأطيار

* استأنسوا بكلماته حتى فرغ من قصيدته وجاء دور صاحبه، أو بالأحرى غريمه، معروف الرصافي. كان العراق عندئذ في ظل الملك فيصل الاول، ولكنه ما زال رسميا تحت الانتداب البريطاني. وكما نعلم، كان الرصافي، من أشد نقاد النظام تطرفا.

تطلع الحاضرون الى ما سيقوله. وبدلا من مداعبات الزهاوي أخرج من جيبه نضدة من الاوراق. وتنحنح وقال هذه قصيدة سميتها laquo;الانتدابraquo;. مسك القوم أنفاسهم. إذ بدأ الشاعر بتلاوة ما في جعبته من القصيد فأنشد وقال:

دع مزعج اللوم وخل العتاب

واسمع الى الأمر العجيب العجاب

ثم مضى بأبيات مقذعة على عادته، فوصف الحكومة بما لا يليق بغير المرأة العاهرة التي تخفي زينتها وزيفها وعهرها تحت عبائتها وبرقعها فقال:

* قال جليسي يوم مرت بنا - من هذه الغادة ذات الحجاب؟

* قلت له: تلك لأوطاننا - حكومة جاد بها الانتداب

* يروي المؤرخ والأديب مصطفى علي فيقول، انه كان مع نفر من اصدقاء الشاعر. جلسوا واستمعوا اليه حتى انتهى من قصيدته. وعندئذ ساد الوجوم ولم ينطق احد ببنت شفة. ويظهر أنه حتى قطط السيد الدفتري خلدت للسكون وانصتت للشاعر. انفض الحاضرون الى بيوتهم ليتناقلوا وينقلوا الى من فاتهم الحضور، أبيات الرصافي. عاد الشاعر وعاد الحاضرون، كل الى بيته آمنا مطمئنا. وبقيت ذكريات تلك الليلة عالقة في اذهانهم كواحدة من تلك الليالي البغدادية الاصيلة، تلك الليالي القديمة ليالى السلم والأخوة والأمان. ليالي الايام اللي فاتت وراحت.