خيري منصور

لا يعادل نعمة نقد الذات أو يتفوق عليها سلبياً إلا الإحساس بالمعصومية، وبأن الذات فوق النقد، لأنها تحتكر الصواب والحقيقة.

وقد أدى غياب المراجعة النقدية للذات إلى تدهور حضارات وهلاك أفراد، وأحياناً غروب زعماء رغم اعتقادهم أن شمسهم أزلية.

والغرب بالرغم من كل نواقصه وما يشكو منه لا يزال محتفظاً بنعمة نقد الذات، إلا في حالات نادرة كالتي تعيشها أمريكا منذ سبع سنوات.

في عالمنا العربي، لم يزدهر نقد الذات، إلا مرة أو اثنتين، وفي أعقاب هزائم وكوارث كبرى. فبعد العام 1948 الذي شهد هزيمة الجيوش السبعة عندما كان القرش الفلسطيني مثقوباً والذاكرة العربية مثقوبة أيضاً جاء النقد الذاتي مريراً، وسرعان ما تحول إلى ماسوشية، جعلت العرب لبعض الوقت على الأقل يستمرئون هجاء أنفسهم وتاريخهم، وانتهى نقد الذات في تلك المرحلة إلى متوالية من الانقلابات العسكرية التي لم تبلغ مرحلة الثورات بمعناها الدقيق، فالجنرالات القادمون على الأغلب من الريف سرعان ما تحولوا إلى زعماء تقليديين، وما أعطوه لأنفسهم من حق النقد حرموه على غيرهم، فانتهى المشهد إلى ما انتهى إليه.

وبعد هزيمة حزيران صدرت عدة كتب تباعاً ضمن ما يمكن تسميته نقد الذات، فقد كتب د. صادق العظم عدة كتب في مختلف المجالات هي بالجملة نقد ذاتي، سواء تعلق هذا النقد بشكل الدولة، أو الموروث العاطفي أو الايديولوجيا، وفي الفترة ذاتها صدرت كتب مكرسة لاستقصاء التلف في خيوط النسيج الاجتماعي، وغالباً ما اقترنت كلمة الذات بأوصاف مثل الجريحة أو المقهورة أو المبتورة، وما أن صمتت المدافع حتى ساد صمت شبه شامل، والنظم التي جعلتها الهزيمة الأشبه بفضيحة تتسامح وتنفرج قليلاً عادت إلى تماسكها التقليدي وكأن شيئاً لم يكن.

وما يصدر في هذه الأيام من كتب سياسية واجتماعية وثقافية في الغرب ثمة رفوف كاملة منه تنطلق من هاجس نقد الذات.

وما يكتبه نعوم تشومسكي ومور وبنتر وجارودي وآخرون هو نقد ذاتي، رغم أنه يبدو مجرد إدانات شاجبة لسياسة الغرب واستراتيجيات دولة إزاء العالم.

بالأمس، قرأت ما كتبه فرانسوا فوركيه من تأملات لما طرأ على منظومات القيم في الغرب ضمن سلسلة أبحاث تقدمها مؤسسة سويسرية تحمل عنوان ldquo;تقدم البشريةrdquo;، والكتاب الذي انطلق من ثالوث المال والقوة والحب، هو نقد ذاتي أيضاً سواء تعلق الأمر بتحويل الإنسان إلى سلعة في سوق عالمي، أو بالحب الذي تردى وفقد وهجه الدافئ القديم.

إن نقد الذات لا يهدف إلى الترميم أو تدليك النرجسيات الجريحة، بل هو بحث جدي في جذور القضايا والظواهر، كي يتعافى المجتمع من إصاباته النفسية والتي قد لا تظهر أعراضها بشكل واضح، كما تظهر البثور على الجلد.

ولا أدري لماذا نضيق نحن العرب بالنقد الذاتي ونراه أحياناً نشراً للغسيل على السطوح، رغم أن الدوافع لمثل هذا النقد قد تكون وطنية صادقة، وتهدف إلى استدراك ما تبقى، لأن فلسفة النعامة برهنت على امتداد التاريخ عن فشلها، وإغماض العينين والتعامي عن مشهد غير سار لا يعني إطلاقاً حذفه أو النجاة من إفرازاته السامة.

أما الشعرة الدقيقة الفاصلة بين نقد الذات ونقيضها أو قضمها والتلذذ بهجائها فهو لا يحتاج إلى عبقرية، والمؤسف أن بعض المثقفين العرب يخشون من هذا النقد خشية من التخوين أو النبذ، لهذا فإن خسائرنا في هذا المجال لا تحصى، وقد يفرح المريض بما يقوله طبيب يخدعه ويتملق عواطفه، لكن لبعض الوقت.. والنتيجة كارثة محتمة.