عبدالحميد الأنصاري
كثيرون أرادوا ألا تتم زيارة الرئيس الأميركي للمنطقة، كثيرون تمنوا أن تفشل الزيارة، كثيرون حاولوا افتعال حوادث لتعكير صفو الزيارة، سال مداد كثير في التنديد بجولة بوش في المنطقة، وتعالت صرخات الحناجر في الفضائيات احتجاجاً، وصحف المعارضة المصرية لم تدخر وسعاً في نعت الرئيس الأميركي بالنعوت المسيئة وغير اللائقة.
تظاهرات احتجاجية دبرت في أكثر من منطقة عربية، جماعات (الكراهية) علت أصواتها معارضة لزيارة الرئيس الأميركي، الإخوان في مصر ومن غير مناسبة طالبوا بمنع الزيارة، لكن الزيارة تمت والجولة اكتملت، والأهداف تحققت ولقي الرئيس الأميركي أينما حل أو ارتحل كل حفاوة وترحيب وحظي بالعناق الحميم والتقى بزعماء العرب ـ معسكر العقلانية والاعتدال ـ
وتحاور معهم بكل صراحة، وحظي في الخليج بأجواء حميمية لن ينساها: رقصة العرضة والعشاء في الصحراء، والمبيت في مزرعة، ورأى مظاهر التقدم وعمليات التنمية والإصلاح تسير بخطوات واثقة وسريعة في المنطقة وقد أبدى إعجابه وإشادته بها..
لكن دعونا نتساءل : لماذا تعالت أصوات المعارضين الرافضين للزيارة وما هدفهم؟ لم أجد أي منطق عقلاني لهؤلاء الذين ملأوا الدنيا صراخاً، لا يوجد أي تحليل موضوعي في طروحاتهم التي غلبت عليها لغة الاحتجاجات،
لم أجد مقالاً يحلل ويناقش أهداف الزيارة من منطلق عقلاني يستبطن أهمية تحالف دول المنطقة مع الدولة الأعظم في المدى الاستراتيجي، لم تخرج الطروحات والكتابات عن ترديد وتكرار نغمتين سقيمتين هما: (دعم إسرائيل) و(تحريض الخليج ضد إيران)،
ومن يطلع على الكم الهائل لتلك المقالات لا يخرج إلا بانطباع واحد هو تعاظم (حجم الكراهية) على المستوى الشخصي تجاه شخصية الرئيس الأميركي نفسه ولذلك كان هم الكاتب قراءة نوايا (بوش) لا المعطيات الظاهرة ولا سياساته ولا تصريحاته، والمقالات في معظمها أقرب للأماني والأحلام منها إلى الحقائق الصلبة التي تحكم المشهد العربي والخليجي الراهن.
طروحات هؤلاء الكتّاب لا تكاد تخرج عن هدفين: إما خدمة الطرح الغوغائي الذي يسود الساحة وركوب الموجة العاطفية للشارع العربي، ظناً أن الجماهير العربية تفضل هذا النوع من الطرح السطحي (من باب ما يطلبه المستمعون)
وإما خدمة أهداف معسكر (الممانعة) و(المقاومة) و(النصر الإلهي) و(المال النظيف) الذي يواجه معسكر (الاعتدال العربي) وهذا المعسكر البائس (اليائس) يضم تحالفاً حجائبياً بين دول وقوى وجماعات لا تربطها إلا معاداة (أميركا) و(مواجهتها) و(مناطحتها)، وهو بزعامة (طهران) المايسترو الكبير للجوقة وقوى أخرى لا نعلمها.
الآن إذا كان من الطبيعي والمنطقي أن يقوم معسكر (الممانعة) و(المقاومة) بكل ما من شأنه تخريب جولة بوش أو تعكير صفوها، فما مصلحة هؤلاء الكتّاب المتباكين والمحتجين على زيارة بوش؟ لا تفسير إلا أن معاداة أميركا (ظاهرياً) مكسب إعلامي كبير لصاحبها!
إيران لها مصلحة في منع زيارة بوش وكذلك حزب الله، ولكن ما مصلحة (حماس) في معاداة أميركا وهي أحوج ما تكون إليها لحل أزمتها؟ وما مصلحة الإخوان في بيانهم غير العقلاني (لا مرحباً بالقتلة)؟!
ومن هذا المنطلق نفهم الاستفزازات المستمرة والحوادث الدامية التي تزامنت وصاحبت جولة بوش في المنطقة، بدءاً من مناوشة الزوارق الحربية الإيرانية للبوارج الأميركية وازدياد نشاط العمليات العدوانية ضد الجيش الأميركي في العراق، وتفجير (الكرنتينا) في بيروت الذي استهدف سيارة دبلوماسية أميركية،
وإفشال المبادرة العربية التي حملها الأمين العام عمرو موسى لبيروت حتى لا يربط نجاحها بزيارة بوش، وكذلك استهداف المدرسة الأميركية بغزة ـ مرتين ـ بالتخريب والنهب، ولا يمكن أيضا استبعاد تجدد المعارك بين الجيش اليمني والحوثيين عن هذا السياق، ويأتي نشاط صواريخ قسام ضد البلدات الإسرائيلية المجاورة والرد العدواني الإسرائيلي (المجزرة)
والذي أسقط العشرات من القتلى في هذا الإطار، كل هذه الأعمال لا هدف لها إلا إفشال زيارة الرئيس الأميركي ولو حتى بالإضرار بأنفسنا، هل هناك ما هو أعجب من ذلك؟ لماذا لا تكون هذه الزيارة فرصة مواتية لنسمع الرئيس الأميركي وجهة نظرنا ولطرح رؤيتنا مباشرة أمامه تجاه قضايا المنطقة؟، لماذا لا تكون فرصة لنا لنتعرف على طبيعة تفكير بوش ورؤيته لقضايانا؟
لماذا لا تكون الزيارة فرصة لتبادل الحوار والنقاش؟ لماذا نستبق الأحداث ونحكم بالفشل من قبل أن تبدأ الزيارة؟ لماذا حملة الشتائم والإسفاف؟ هل بتحريض الجماهير ضد زيارة بوش تتحقق عملية السلام وتقوم دولة فلسطين؟ وهل بمثل هذا الإسفاف نحتوي النفوذ الإيراني المتصاعد ونحجم أخطاره على المنطقة؟
التفسيرات السطحية التي يرددها بعض الكتاب عن أهداف الزيارة متمثلة في مساندة إسرائيل وتحريض الخليج ضد إيران، تصطدم بجملة من الحقائق الموضوعية، فأولاً إسرائيل في أوج قوتها وبخاصة بعد الانقسام الفلسطيني الدامي وانشغال حزب الله بالجبهة الداخلية،
فلا توجد ثمة أخطار على إسرائيل في المستقبل القريب، وزيارة الرئيس الأميركي لن تضيف لها قوة بل تضطرها ـ أحياناً ـ إلى تقديم تنازلات وقبول بعض الضغوط، وأما صواريخ قسام فهي laquo;ألعاب أطفالraquo; لا تضر إسرائيل بل تعطيها الذريعة القوية لمواصلة عدوانها ولرفضها عملية السلام والاعتراف بإقامة دولة فلسطينية وبحق العودة للفلسطينيين وتكسبها كذلك مزيداً من التعاطف العالمي.
وثانياً: بالنسبة لدول الخليج، فالخليجيون واعون ومدركون لحجم النفوذ الإيراني في المنطقة، ولا يحتاجون إلى من يبصرهم ولا لمن يحرضهم. كما أن أميركا ليست بحاجة إلى تحريض الخليجيين ضد الخطر الإيراني، لأنها لو قررت توجيه ضربة عسكرية لإيران فهي قادرة كما فعلت مع صدام، وحينئذ ستجد حلفاء كثيرين.
الآن دعونا نتساءل: ما أهداف زيارة الرئيس الأميركي للمنطقة؟ وما الرسالة التي أراد توصيلها لنا وللآخرين؟
أتصور أن الأهداف أو الرسالة تتلخص في الآتي:
1 ـ تأكيد التزام الإدارة الأميركية بحماية أمن المنطقة وتأكيد التحالف الأميركي كتحالف استراتيجي يضمن استقرار وأمن المنطقة وبما يحقق المصالح المشتركة للخليج ودول العالم جميعاً.
2 ـ طمأنة الخليجيين أنه لا صفقات مقايضة مع إيران على حساب الخليجيين وبخاصة بعد تصاعد التكهنات عن وجود مثل هذه الصفقات.. فهناك لوبي إيراني نشط في الجامعات والإعلام ومراكز البحوث الأميركية يدعو الإدارة الأميركية إلى التفاوض مع إيران وبأن تعترف الإدارة بمصالح إيران في المشرق العربي،
بمعنى قبول أميركا بالاختراق الإيراني في المنطقة عبر حلفائها في مقابل تسهيل إيران الحل في لبنان، وتأتي هذه التكهنات على خلفية ما يردده البعض أن أميركا سلمت العراق لأنصار إيران، وقضت على طالبان وذلك مصلحة إيرانية ـ أيضاً ـ
وطبعاً تأتي هذه الاتهامات التي تحاول زعزعة مصداقية أميركا في سياق التشويه وقلب الحقائق. فلا أنصار إيران في العراق يحكمون ولا القضاء على طالبان كان مصلحة لإيران وحدها، العالم الإسلامي كله ارتاح من طالبان، القضاء على طالبان والنظام الاستبدادي في العراق مصلحة دولية وخليجية، جاء بوش ليقول للخليج: لن ندعكم وحدكم في مواجهة المخاطر.
3 ـ تأكيد دعم أميركا لمعسكر الاعتدال والعقلانية العربي وبالخصوص الدول الخليجية ومصر والأردن، والداعم للعملية السلمية في مواجهة المعسكر الرافض لها والذي يسعى لنشر الفوضى في العالم العربي كوسيلة ضغط على أميركا. وقد أكد بوش دعمه للعملية السلمية وأبدى ثقته في تحقيق الدولة الفلسطينية،
وعبّر عن تفاؤله بتحقيق ذلك قبل مغادرته البيت الأبيض نهاية 2008، ولكن لماذا لم يزر بوش قطر وهي من معسكر الاعتدال؟ أثيرت أقاويل بوجود خلاف بسبب laquo;الجزيرةraquo; وعلاقة قطر بحماس وحزب الله، وأتصور أنها على غير أساس.
فعلاقة قطر بأميركا استراتيجية وتحالفها قوي، ولا تتأثر بمثل هذه الخلافات الطبيعية الموجودة بين كل الحلفاء، ولماذا لا تكون علاقة قطر بتلك الجماعات والدول المعادية لأميركا ما يكون فيه مصلحة لكل الأطراف؟
ولعل الرئيس الأميركي اكتفى بزيارته السابقة لقطر ثم انه لم يزر دولاً كثيرة أخرى. لقد كانت جولة بوش في معسكر الاعتدال العربي لتأكيد أنه معنيّ بما قاله وبقوله عن laquo;حل الدولتينraquo;.
4 ـ توجيه رسالة قوية لإيران من الضفة المقابلة، مضمونها: أن أميركا باقية في المنطقة وفي العراق ولبنان وأنها لن تتخلى عن حلفائها ـ ويأتي تصريح وزير الدفاع العراقي بالحاجة للقوات الأميركية حتى 2018 في هذا السياق ـ
كما أن الرسالة تقول: ان أميركا معنية بأمن الخليج باعتباره يشكل أمن العالم أجمع والذي يعيش على النفط العربي. وفي 22 يناير ينعقد مؤتمر برلين لمناقشة القرار الدولي الثالث لفرض عقوبات جديدة على إيران.
ولعل ما يقوي الأمن في المنطقة خطوة فرنسا نحو إقامة وجود عسكري دائم في المنطقة، ولم يكن ليتحقق ذلك لولا السياسة الفرنسية الجديدة على يد laquo;ساركوزيraquo; النشط سياسياً واجتماعياً وإعلامياً والذي استطاع تغيير سياسة فرنسا من سياسة الثعلب الانتهازي الذي يعيش على فتات الأسد الأميركي إلى سياسة مبادرات إيجابية فاعلة، ولطالما نعى الأوروبيون الاحتكار الأميركي للأمن الخليجي الاستراتيجي وها هو ساركوزي يفك الاحتكار.
5 ـ وقد يكون من أهداف الزيارة أيضاً مناقشة موضوع ارتفاع أسعار الطاقة مع زعماء المنطقة وهو أمر شاركه فيه ساركوزي أيضاً، وذلك بسبب تلاعب المضاربين بأسعار النفط وهو أمر يشكل خطورة بالغة ليست على الاقتصاد العالمي فحسب بل وعلى اقتصاديات المنطقة والمستفيد الوحيد هم المضاربون.
وإذا لم تتدخل laquo;أوبكraquo; فقد يصل السعر إلى 200 دولار، ما يشكل كارثة عالمية.هذه هي حقيقة رسالة وأهداف جولة بوش بعيداً عن التصورات المسبقة لأصحاب الأجندات الجاهزة والمزايدات الإعلامية الفارغة.
- آخر تحديث :
التعليقات