فهمي هويدي

أنسحب بعض وزراء الخارجية العرب من اجتماع طارئ دعت اليه الجامعة العربية لبحث نتائج زيارة الرئيس بوش والجرائم الاسرائيلية البشعة والمتواصلة في غزة. وأمام جموع الصحفيين المحتشدين أعلنوا استقالتهم من مناصبهم، وأرفقوا اعلانهم ببيان هذا نصه:
(1)
لقد فاض بنا الكيل ولم نعد نحتمل الصبر، بعد أن أصبحت قضايا الأمة العربية يعبث بها البعض تحت أعيننا، ومصائرها تدار من وراء حدودها، وأحلامها تجهض واحداً تلو الأخر. وكانت الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس جورج بوش لبعض العواصم العربية بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، اذ وجدناه منذ اللحظة الأولى التي وطأت فيها قدماه أرض المنطقة قد أغلق الملف الفلسطيني، وبدد كل الأمال التي علقت على الدور الأمريكي، خصوصاً بعدما سلم الملف بكامله الى الادارة الأمريكية في مؤتمر أنابوليس. اذ قررت وثيقة التفاهم التي أعلنت فيه أن خريطة الطريق هي المرجعية الاولى للتفاوض بين الفلسطينيين والاسرائيليين حول قضايا الحل النهائي. كما تم الاتفاق على تشكيل لجنة ثلاثية لمتابعة المفاوضات برئاسة أمريكية.
لقد أعلن الرئيس بوش في اليوم الأول لوصوله الى تل أبيب عن يهودية الدولة الاسرائيلية، الأمر الذي يعني الغاء حق العودة ويفتح الباب لطرد العرب المقيمين داخل حدود الدولة العبرية. وعرض 150 مليون دولار على اللاجئين الفلسطينيين مقابلا لبيع وطنهم وتاريخهم، وتحدث عن تعديل حدود الدولة الاسرائيلية، وأيد أستمرار بقاء المستوطنات التي أقيمت بالمخالفة لقرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي. ودعا الى أقامة دولة فلسطينية بلا سيادة تكون وظيفتها الأساسية هي حماية المصالح وتأمين الطموحات الاسرائيلية. وهو حين فعل ذلك فانه وضع سقفاً اسرائيلياً للحلم الفلسطيني، وأعتبر أن ذلك السقف هو الاطار الذي يحكم السياسة الأمريكية في المنطقة، وأن هذه هي خطة الطريق الحقيقية.
بهذا الطرح الامريكي البائس والمهين تم التمهيد لتصفية القضية الفلسطينية، وأصبح مطلوبا من العالم العربي ألا يطمح الى أبعد مما تحدث به الرئيس بوش. وحين تصبح أفكار من ذلك القبيل هي تمثلات انطلاق مفاوضات السلام التي أسفر عنها مؤتمر أنابوليس، فأن العرب يصبحون بازاء خدعة تاريخية كبرى تلغي ستين عاماً من ترقبهم وسعيهم لحل القضية الفلسطينية. ومن ثم تحولهم من شركاء في تحمل مسئوليتها الى متواطئين ومتآمرين عليها.
لقد كان مفجعاً حقاً ما قاله الرئيس في العلن، لكن ما كان مذهلاً حقاً ان الرئيس الأمريكي استقبل بعد ذلك بحفاوة بالغة في العديد من الدول العربية التي زارها. من ثم فاذا كانت تصريحاته الصادمة مهينة للعرب، فان الحفاوة التي استقبل بها جاءت دليلاً على أن العرب يستحقون الاهانة، لذلك فاننا حين استقلنا من مناصبنا فاننا أردنا أن نعلن على الملأ أننا لسنا من هؤلاء.
(2)
لقد جاء الرئيس بوش لكي يقنعنا بأن الخطر الذي يهدد المنطقة ليس اسرائيل وانما هو ايران. وفي كل محطة عربية توقف فيها حرص على أن يلقننا هذا الدرس. ولم تكذب اسرائيل خبراً، لانها نفذت مذبحة غزة التي قتلت فيها 19 شخصاً في يوم واحد (الثلاثاء 1/15) قبل مغادرته، وقتلت في غاراتها 40 شخصاً خلال أربعة أيام ثم اعقبت ذلك بقرار قطع التيار الكهربائي وشل الحياة فى القطاع. ولم يكن هناك من تفسير لذلك سوى أن القادة الاسرائيليين كانوا واثقين من أن وقوع المذبحة وتكرارها لن يعكر أجواء زيارة الرئيس بوش، ولن يقلل من حميمية استقباله، ناهيكم عن أنه لن يكون محل استياء من جانبه او من مستقبليه، فمثل هذه الغارات في النظر الأمريكي دفاع عن النفس، ثم انها في ظل استراتيجية الاحتشاد لمواجهة ايران، تعد من قبيل laquo;النيران الصديقة!raquo;.
لقد كان مخزياً أن يصمت الخطاب الرسمي العربي ازاء كل ذلك. فلا انتقدت تصريحات الرئيس بوش ولا أدينت الغارات الاسرائيلية ولا تحرك احد جريمة اغتيال القطاع واذلال اهله. وبلغ الخزي أقصاه حين سكت المندوب الفلسطيني لدى الأمم المتحدة على مذبحة غزة، ولم يطلب عرض موضوعها على مجلس الأمن. وهو ذات المندوب الذي كان قد أعد مشروعاً لعرضه على الجمعية العامة لاصدار قرار يعتبر حماس منظمة خارجة على القانون، ومن ثم منظمة ارهابية. واستمر شعورنا بالخزي حين وجدنا أن السلطة الفلسطينية في رام الله أكتفت باطلاق عدة تصريحات احتجاجية على استمرار الغارات الاسرائيلية، وبعثت برسائل استغاثة الى laquo;اولي الامرraquo; فى واشنطن وغيرها من العواصم الاوروبية للقيام بما يلزم. كما أنها عجزت عن أن تصدر قرارا يوقف المفاوضات بسبب استمرار اسرائيل في توسعاتها الاستيطانية، رغم الفشل المتلاحق الذي منيت به جولات المفاوضات، وثبوت العبثية في استمرارها.
لقد أقنعتنا خبرة السنة الأخيرة بأن الهم الأساسي للسلطة في رام الله لم يعد تحرير فلسطين، لأن شاغلها الحقيقي بات تحرير غزة من سلطة حماس. وذلك واضح في خطابات وتصريحات الرئيس أبو مازن، خصوصاً خطابه الكارثي الذي ألقاه في مؤتمر أنابوليس. من ثم لعلنا لا نبالغ اذا قلنا أنه لم تعد هناك في حقيقة الأمر قضية فلسطينية، وانما تفتتت المشكلة وتحولت الى قائمة طويلة من المشاكل والقضايا، أكثرها يتعلق بالصراعات الحاصلة داخل الصف الفلسطيني ذاته، خصوصاً الكيانات الممثلة للشعب الفلسطيني، التي فقدت شرعيتها بعدما أصبحت السلطة الحاكمة في رام الله لا تمثل سوى %10 فقط من الشعب، في حين أن %90 من الفلسطينيين أصبحوا عملياً خارج اللعبة السياسية التي تدير مصير وطنهم.
(3)
أننا نستشعر خجلاً شديداً واسفاً أشد، حين نصارح شعوب الأمة العربية بأن قضية فلسطين لم تعد القضية الأولى على جدول أعمال العمل العربي، ولم يعد أحد يذكر أنها كانت يوماً ما laquo;القضية المركزيةraquo;. وقد فقدت أولويتها منذ اللحظة الأولى التي رفع فيها الشعار الذي يقول أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، ومنذ روج البعض للأدعاء بأننا نقبل ما يقبل به الفلسطينيون، وينبغي الا نزايد عليهم لنكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين. الى غير ذلك من المقولات التي مهدت للتحلل من التزامات القضية التي هي من صميم الأمن القومي العربي، حتى أصبح مصيرها معلقاً بقرارات اطراف مشكوك في تمثيلهم للشعب الفلسطيني ذاته.
هذا التمهيد البائس فرَّخ في طور لاحق الشعار الذي يقول: نحن أولاً، والذي يخفي بين طياته تكملة تقول: وليذهب الآخرون الى الجحيم. وحاول المروجون للشعار أن يدغدغوا المشاعر القطرية والانعزالية، لكي يغذوا بها فكرة الانفضاض من حول القضية الفلسطينية بحسبانها عبئاً على الاقطار الأخرى، في حين أن الفلسطينيين كانوا هم الضحية التي صلبها الصهاينة في مشروعهم لتمهيد تلك الأقطار وتعطيل نموها، خصوصاً ما كان منها في الجوار الجغرافي، ومصر على رأس تلك الدول.
اذ لم يعد هناك شك فى تراجع أولوية قضية فلسطين في الملف العربي. فلعلنا لا نبالغ اذا قلنا بأن لبنان أصبحت قضية العرب المركزية في الوقت الراهن. فالأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى، ذهب الى بيروت عدة مرات بتكليف من مجلس الجامعة لكي يحاول التوفيق بين تياري الحريري من ناحية وعون وحزب الله من ناحية ثانية، في حين لم يفكر مجلس الجامعة في القيام بدور مماثل في التوفيق بين حركتي فتح وحماس. ولم يعد سراً ان الدول العربية كانت ولا تزال شريكة في حصار غزة وتدمير حياة الفلسطينيين هناك. بل أن بعض الدول العربية عززت الانقسام وقامت بالاصطفاف الى جانب طرف دون آخر. ومنها دول تتولى تمويل جماعة رام الله بالمال والسلاح باتفاق مسبق مع الولايات المتحدة، وقبول وتشجيع من جانب اسرائيل.
هذه الأيام تحاول بعض الشخصيات الفلسطينية المستقلة المقيمة خارج الأرض المحتلة عقد اجتماع لبحث كيفية ترتيب البيت وانتخاب مجلس وطني جديد يمثل الشعب الذي تعيش أغلبيته خارج الضفة وغزة، ولكنهم لم يجدوا بلداً عربياً يرحب باجتماعهم. ولما يئسوا اتجهوا الى دول الجوار العربي آملين أن يمكنوهم من عقد ذلك الاجتماع، ورسالة عدم الترحيب واضحة، في حين أنها تعني أما مساندة الوضع القائم في رام الله والحرص على ابقاء الأمر على ما هو عليه، أو تجنب الضغط الأمريكي الذي يدعم بقوة سلطة أبو مازن ويعارض بنفس القوة أي صيغة أخرى للوفاق الفلسطيني، خصوصاً التفاهم بين فتح وحماس أو تشكيل حكومة جبهة وطنية.
أننا نرى في الأفق نذر سوء تؤرق ضمير أي عربي شريف. فالامة العربية صارت جسما بلا رأس وسفينة بلا ربان، وبيتاً دبت فيه الفوضى وانقلبت معاييره. فالكبار فيه تضاءلوا وصغروا، والصغار ارتكسوا ونفروا. فى الوقت ذاته فان الابالسه المتربصين ما برحوا يعيدون رسم خرائطها واعادة تركيب اولوياتها بما يخدم مصالح الاستراتيجية الأمريكية والاسرائيلية، ويهدد أمن الأمة بقدر ما يشق صفها، ما بين بعاد مغاربي الى انسحاب لدول مجلس التعاون الخليجي، وانفراط مشرقي. ولأن الأمر كذلك، فأننا آثرنا أن نربأ بانفسنا عن التورط في هذه المواقف. ولم نجد أمامنا سوى الأستقالة من مناصبنا والانتقال الى صف الجماهير التي لا يزال أملنا فيها أكبر وثقتنا فيها بغير حدود ـ ونحن مطمئنون في النهاية الى أن الزبد يذهب جفاء وأن ما ينفع الناس وحده الذى يمكث في الأرضـ حفظ الله أمتنا من كل سوء.
(4)
كان ذلك حلماً طويلاً ومثيراً افقت منه حائراً، لأنني لم أجد أسماء الموقعين على البيان، فلجأت الى الصديق جميل مطر، الدبلوماسى المخضرم واحد خبراء السياسة العربية العارفين بأسرارها، وسألته عن وزراء الخارجية العرب الذين يرشحهم لتوقيع البيان. وظللنا على الهاتف نستعرض أسماء ومواقف الوزراء واحداً واحداً، الا أنه في نهاية المطاف أعتذر عن عدم افادتي في الموضوع، قائلاً انه يعرف واحداً فقط يمكن أن يصدر بياناً بهذه الصورة، ولكنه أقيل من منصبه!