محمد عابد الجابري

لقد طغى في المقالات السابقة نوع من العرض الوصفي الطوبوغرافي للمشهد الثقافي العربي منذ الخمسينيات، وقفتُ فيه موقف الشاهد على الرغم من أنني كنت منفعلاً وفاعلاً في هذا المشهد منذ بدايته.
لقد شهد منتصف الخمسينيات بداية تحول هائل في الوضع الثقافي والإيديولوجي في العالم العربي. ومع أن مظاهر من هذا التحول قد برزت في أوائل الخمسينيات كنتيجة للتطور الذي عرفته الثقافة العربية، خاصة في مصر وسوريا ولبنان، قبل ذلك بسنوات، فإن انتقال هذا التحول من وضعية quot;الجنينquot; إلى وضعية quot;الوليد الجديدquot; إنما حدث بفعل حدثين تاريخيين، هما الثورة المصرية بقيادة جمال عبدالناصر من جهة، ومن جهة أخرى دخول عملية استقلال الأقطار العربية المستعمرة في مرحلة جديدة، باستقلال كل من المغرب وتونس وقيام الثورة الجزائرية. ومن حسن حظي -ربما- أن يقترن مع هذه الأحداث التاريخية حصولي على شهادة البكالوريا (الثقافة العامة) عام 1957 وانتسابي للتعليم الجامعي، ضمن نظام تعليمي وطني كان يتعامل بنوع من التساوي مع كل من الثقافة العربية الإسلامية ولغتها العربية، والثقافة الأوروبية وأصولها اليونانية بواسطة اللغة الفرنسية.

وإذا كنت قد اضطررت لذكر هذه العناصر الثلاثة هنا (الثورة المصرية وبعدها القومي التحرري، دخول المغرب في عملية بناء الاستقلال، حصولي على البكالوريا وانتسابي للجامعة) فلأنها طبعت عالمي الثقافي منذ مرحلة الشباب، هذا العالم الذي تزامن فيه داخل أعماقي التعرف على الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الأوروبية على مستوى جامعي يتعامل مع جميع المنشآت الثقافية والتيارات الأيديولوجية تعامل الصاعد على سلم quot;برجquot; الفلسفة. هذا -في نظري- من جملة ما يفسر جانب quot;الفعلquot; في حضوري في المشهد الثقافي الذي حاولت أن أعطي عنه في هذه المقالات وصفاً طوبوغرافيا ًيستجيب -فيما أعتقد- لما طلب مني في ندوةquot;منتدى الاتحادquot;.
quot;المشهد الحاضرquot; اليوم ينطق أيضاً بمضمون quot;المشهد الحاضرquot; أمس. إن الزمن الثقافي العربي، زمن ممتد: الحاضر فيه quot;أشبه بالآتي من الماء بالماءquot;.
والآن، بعد هذا العرض الطوبوغرافي أنتقل إلى العرض الإشكالي. ذلك أن تاريخ الشأن الثقافي سيبقى -في نظري على الأقل- بدون quot;معنى تاريخيquot; إذا هو اقتصر على مثل هذا العرض. ومن أجل توضيح هذه المسألة سأتجنب كلاً من quot;الشرح المعجميquot; والشرح التحليلي، وسأكتفي بذلك الشرح الذي يطلق عليه عادة quot;الشرح بالمثالquot;. أو quot;ضرب المثلquot;، فهو أقرب الرسائل إلى ذهن القارئ، في نص يخاطب الجمهور الواسع كالنص الصحفي.
يقول الطبري في مقدمة كتابه تاريخ الأمم والملوك: quot;فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنما أدَّينا ذلك على نحو ما أُدي إليناquot;.

أما ابن خلدون فيرى أن التاريخ لا ينبغي أن ينظر إليه على أنه مجرد quot;أخبارquot; تروى، كما هو الشأن في quot;علم الحديثquot; الذي اقتبس منه المؤرخون منهجهم الذي يعتمد السند (العنعنة). وذلك لسبب بسيط وهو أن غرض quot;علماء الحديثquot; هو الوصول إلى نص الحديث كما نطق به الرسول عليه الصلاة والسلام، والسبيل إلى ذلك هو نقد السند أو التعديل والجرح، والهدف التأكد من مصداقية الراوي وليس من صدق مضمون quot;نص الحديثquot;، لأن نص الحديث صادق أصالة لكونه نطق به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مُسلَّم به سلفاً. أما quot;الأخبارquot;، موضوع التاريخ، فهي لا تمتلك بنفسها هذا النوع من الصدق ولذاك كان نقد السند فيها غير كافٍ. فلابد من البحث عن شيء آخر وراء الأخبار كما تروى حتى ولو كان راويها صادقاً وذا مصداقية.
باختصار يريد ابن خلدون أن يجعل من التاريخ quot;شاهداًquot; على نفسه. فالتاريخ ليس مجرد حوادث تتعاقب في الزمان دون خضوع لعوامل معينة، بل هناك خيوط تنتظم هذا التعاقب، وثوابت توجه مسراه ومجراه. فكما أن الحوادث الطبيعية تجري وفق قوانين معينة، أي وفق quot;مستقر العادةquot; -حسب تعبير الأشاعرة وابن خلدون منهم- فكذلك الوقائع الاجتماعية والتاريخية، وبعبارة ابن خلدون quot;أحوال العمرانquot;، لها طبائع وقوانين خاصة بها، quot;فإن كل حادث من الحوادث، ذاتاً كان أو فعلاً، لابد له من طبيعة تخصه في ذاته وفي ما يعرض له من أحوالهquot;. ولذلك فإن quot;القانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة، أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، فنميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضاً لا يعتد به، وما لا يمكن أن يعرض له(...) وكان ذلك لنا معياراً صحيحاً يتحرَّى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونهquot;.
لقد فضلت هذا النوع من quot;ضرب المثلquot; لتقديم الاستطراد الذي ارتأيت إدراجه هنا، لأن قراء هذا النص فريقان، فيما أتخيل! أحدهما يقرؤه بواسطة مخزونه الثقافي التراثي، العربي الإسلامي، وبالتالي لابد من كتابة الرسالة إليه عبر quot;مثلquot; يجد له صدى إيجابيا ًفي ذلك المخزون، أما الفريق الثاني فيقرؤه بواسطة مخزونه الثقافي الذي اكتسبه من دراساته في الفكر الغربي. وفي هذه المنطقة من العالم العربي (منطقة الخليج) يغلب الاتجاه الوضعي في هذا المخزون المكتسب، بسبب الدراسة في أصله وموطنه. إن الثقافة الأنجلوسكسونية لا يحضر فيها الاهتمام بالتاريخ بالقدر الكافي. فالثقافة الإنجليزية تهتم بما هو موجود، بما هو حاضر أمام الحواس، وبعبارة أعم تهتم بما هو تجريبي وقابل للتجربة؛ تنشد ليس المعرفة من أجل المعرفة، بل المعرفة من أجل التجربة، من أجل المنفعة. أما الثقافة الأميركية وهي امتداد واستمرار للثقافة الإنجليزية فهي أمعن في تجريبيتها وابتعادها عن quot;التاريخquot; -حتى لا نقول quot;لاتاريخيتهاquot;.

والمشكلة -مشكلتي هنا- تتعلق كما هو واضح بكوني مطالبا بمخاطبة مرجعيتين مختلفتين تماماً. لقد اقتربت من الفريق الأول بالرجوع إلى الطبري وابن خلدون، وهذا قد أبعدني عن الفريق الأول الذي يتطلب الاقتراب منه الرجوع إلى جون لوك وبيركلي من جهة، وإلى بيرس وبوبر من جهة أخرى.
مشكلتي هنا هي أني أريد أن أبعث رسالة واحدة إلى الطرفين، بحيث يستطيع كل منهما قراءتها وفهمها، وبالتالي يخرجان منها بنفس المعنى، علماً بأن quot;وحدة المعنىquot; في هذا المجال لا تعني بالضرورة quot;وحدة الرأيquot;. يمكن أن يفهم الناس من الشيء الواحد معنى واحداً ولكن ليس من الضروري أن يكون رأي كل منها في ذلك المعنى الواحد مطابقاً لرأي الآخر. وما نفتقده نحن العرب، في الوقت الحاضر (الذي يمتد حضوره وراءنا طويلاً)، هو الوصول إلى وحدة المعنى. ولا أقول quot;الاتفاقquot; على وحدة المعنى. الاتفاق على quot;وحدة المعنىquot; ممكن، وهذا ما يجري العمل من أجله اليوم -طويلاً كان أم قصيراً هذا اليوم- في كل من لبنان والعراق. أما الوصول إلى وحدة المعنى فشيء آخر، لا أقول عنه إنه quot;غير ممكنquot; ولكن أقول يحتاج إلى الجواب عن السؤال التالي: quot;من نحن؟quot;. والجواب عن quot;من نحن؟quot; يتطلب تحديد من هو quot;الآخرquot;: الخصم، العدو؟ ولذلك فإنه من الصعب جداً الوصول إلى وحدة المعنى في لبنان والعراق وما أشبه، قبل الاتفاق على من يمثل quot;اللامعنىquot;.

قلت، بعد التذكير بمضمون المقالات السابقة، إنه عليَّ الآن أن أنتقل، بعد هذا العرض الطوبوغرافي، إلى العرض الإشكالي. ثم أضفت سأتجنب الشرح المعجمي والشرح التحليلي، وسأكتفي بـquot;الشرح بالمثالquot; لبيان ما أقصده بـquot;العرض الإشكاليquot;. وأعتقد أن المثال الذي قدمته يصلح لأن نقرأ على ضوئه quot;ما تحت السطورquot; التي عرضت فيها لتطور الثقافة العربية منذ الخمسينيات. ومع أن المثال مستقى من quot;المشهد الحاضرquot; اليوم فإنه ينطق أيضاً بمضمون quot;المشهد الحاضرquot; أمس. إن الزمن الثقافي العربي، زمن ممتد: الحاضر فيه quot;أشبه بالآتي من الماء بالماءquot;، حسب عبارة ابن خلدون، بمعنى أن الشبه الذي يقوم بين الحاضر (والماضي) وبين الآتي (=المستقبل) كالشبه الذي يقوم بين ماء وماء.