سيار الجميل

كنت دوماً أتساءل: هل باستطاعة الفيدرالية حل أزمات العراق؟ إن الفيدرالية لها مقوماتها كنظام سياسي حديث ومتّقدم، وتعود جذوره التاريخية إلى العام 1787، وهو يقضي بتوزيع السلطة في أكثر من حكومة إقليمية، كانت منفصلة ثم تّتحد وترتبط بحكومة فيدرالية في العاصمة، وتتمتع الأقاليم بشخصياتها الجغرافية والطبيعية والاقتصادية والإدارية.

لقد نجحت بعض تجاربها في اتحاد حكومات أقاليم منفصلة، ولكن أخرى، فشلت وسميت بـ laquo;الفيدراليات الهجينةraquo; كونها طبقت في بلاد لم تتمتع أصلاً بوحدة وطنية، ثم أرادوا لها التقسيم الفيدرالي.

لست ضد المبدأ الفيدرالي أبداً، ولكن العملية السياسية في العراق اليوم، غدت مضنية ومتعثّرة وانخفضت معدلات التأييد لها بسبب مشكلات الدستور العراقي، وإقراره مواد ومبادئ لم يتقبّلها كل العراقيين أبداً، وها قد مضى أكثر من سنتين ونصف على تشريعه من دون أي حراك لتعديله كما أقر بذلك مشرعوه. وعليه، فإن مقياس الوطنية سيتفوق على مشروع الفيدرالية مع توالي الزمن.

لعل من أبرز الشدائد العراقية سيتمثلها ترسيم الحدود بين الأقاليم العراقية، والتي تعتبر من لبنات بناء المستقبل لأي نظام اتحادي. في حين أن الممارسة التقليدية لأكثر الدول المفدرلة وجود كيانات محددة بحدود ولأقاليمها ميزات وخصائص كأن تكون دوقيات أو مشيخات أو دويلات قديمة يسهل فدرلتها، أما في العراق، فليس التبشير بمبدأ أو تضمينه بدستور أو المطالبة به كخطاب، سيخلق أقاليم عراقية مفدرلة، فالأمر ليس سهلاً أبداً كما يتخّيل البعض من المسؤولين العراقيين مع احترامي لمبدئهم الجديد الذي لم نسمع به من قبل، وخصوصاً قبل العام 2003، إلا على لسان أحد الملوك العرب الراحلين.

إن الأمر غير قابل للتسريع، ذلك لأن العراق يمتلك نظاماً إدارياً يسنّه قانون المحافظات، ومن قبله قانون الألوية، والأخير بني على المواريث التي تركها قانون الولايات الجديد الذي سنّ عام 1864. لقد بدت التقسيمات الإدارية للولايات العراقية عند مطلع القرن العشرين على الصورة التالية:

1ـ ولاية الموصل: تضم ثلاثة ألوية، هي: الموصل وكركوك والسليمانية 2ـ ولاية بغداد: تضم ثلاثة ألوية، هي: بغداد وكربلاء والديوانية. 3ـ ولاية البصرة: تضم أربعة ألوية، هي: البصرة والمنتفك ونجد والعمارة.

إن العملية ليست بسيطة جداً في أن بناء أقاليم فيدرالية (باستثناء إقليم كردستان) الذي خدمته فرصة تاريخية اثر حرب عاصفة الصحراء 1991 وهيمنة قرارات المجتمع الدولي على العراق وفرض الحماية على كردستان إثر الاضطهاد الذي مورس ضد الأكراد العراقيين، ولكن فيدرالية كردستان سوف لا تحقق الحلم الكردي، كبديل مؤقت للدولة الكردية التي يحلم بها الأكراد. وعليه، فإن فيدرالية كردستان غير مستقرة أيضاً، فالأكراد لا يريدون بالاكتفاء بمحافظاتهم الثلاث اربيل ودهوك والسليمانية، بل يطالبون بمناطق أخرى في محافظتي كركوك والموصل.

إنني اعتقد بأن المشكلة مضاعفة، ذلك أن العملية ليست مجرد تحويل وحدات إدارية قائمة إلى كيانات فيدرالية، خصوصاً وان laquo;هذه الآليات الدستورية مبتكرة تم تصميمها على عجل من اجل أن يفتح المجال الإداري للتخلص من تركات الماضي وفتح التاريخ لتشكيلات جديدةraquo;، من دون أن يعرف بأن الوحدات الإدارية لا يمكن أن تتحول إلى وحدات سياسية في العراق كونها لم تمتلك أية مقومات حقيقية أو حدود وسواتر في ما بينها!

ويتساءل أحدهم قائلاً: وأين هي ممالك العراق القديمة أو مشيخاته أو إماراته التي كانت لها حدودها وتواريخها السياسية ونظمها الإقليمية لكي نعلن عن مجتمعات عراقية مستقلة نظراً لأن الفيدرالية مشروع جميل ورائع، وأية ممالك متصارعة عاشت فيه متزامنة مع بعضها الآخر؟

وأية مكونات تاريخية وإدارية وسياسية لها حدودها وفواصلها وأسيجتها؟ ومن سوء حظ العراق العاثر أن نسيج المجتمع العراقي مقسم على أساس طائفي مذهبي وعرقي، وهذا ما لم يحدث أبداً في أي تجربة فيدرالية!

هل نتّصور أن العملية الفيدرالية سهلة في العراق، وأنها ستكون حلاً سحرياً للأزمات ـ كما يتخيّل البعض ـ فالدستور بحاجة إلى تعديلات جذرية بإقرار من صاغه من ممثلي الأحزاب الحاكمة! وان الأحزاب دينية أو طائفية أو عرقية لا تعبر عن إرادة كل العراقيين، ومن المؤسف أن يصل الإلحاح بالفيدرالية من الأعلى إلى الأدنى وليس العكس وبأسلوب من يجهل الأمر كثيراً.

إن العراق لم يزل يتعّرض لمخاطر وتحديات قاسية لا يتم علاجها بهذا الأسلوب الذي يكرس الانقسام الداخلي ويثير المشكلات الإقليمية، فمن الاستحالة أن يقبل جيران العراق الأقوياء بالعراق الفيدرالي لأسباب معروفة سلفاً.

إنني اعتقد بأنها ستكون فيدرالية هجينة فاشلة كالتي عاشتها نيجيريا، بسبب انتفاء مقوماتها (باستثناء كردستان التي تكتنفها المشكلات الإقليمية والداخلية)، وان وحدات العراق الاجتماعية متجانسة إلى أبعد الحدود، ولا يمكن التعويل على أية مكونات طائفية أوعرقية لتكون أساساً للفدرلة، إن الفيدرالية لم تنبثق من طموحات الشعب العراقي كله، بل ولم يحظ مشروعها أبداً بالإجماع والتأييد من خلال انطلاق إرادة شعبية عارمة.

إن عدم وجود أقاليم ومجتمعات عراقية مستقلة كانت في ما سبق ممالك منفصلة أو مبعثرة أو مشتتة سبب في صعوبة فدرلة العراق..

لقد ترافق مشروع الفيدرالية في البداية مع مشروعات أخرى، ولما ازداد الإلحاح عليه كثيراً، والمطالبة بتطبيقه سريعاً بدا يفّسر على كونه سعياً مستميتاً من اجل تقسيم للعراق. فهل سيشهد العراق نظاماً فيدرالياً هجيناً أم متطوراً؟

أم أن المشروع سيفشل فشلاً ذريعاً؟ وهل ستكون الفيدرالية حّلاً سحرياً أم بداية حقيقية لضياع العراق وتشرذمه من خلال صراعات أهله؟ هذا ما ستنبؤنا به السنوات الخمس القادمة.