محمد أبو رمان

مع تقارير أمس التي تتحدث عن عودة تزويد قطاع غزة بالوقود، فإنّ سيناريوهات المرحلة القادمة تدفع إلى صعوبة الجزم أنّ قطع التيار الكهربائي عن غزة، وما له من تداعيات إنسانية وخيمة، بالتوازي مع تصعيد سياسة الاغتيالات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، هما مقدمة لاجتياح عسكري يقوم به جيش الاحتلال في القطاع،إذ إنّ حسابات الاجتياح وما بعده تفرض موازين جديدة في المعادلات الفلسطينية والإقليمية على السواء.

يبدو أنّ الرهان الإسرائيلي سيقف عند حدود قطع التيار الكهربائي والعمليات العسكرية والأمنية الجراحية بين الحين والآخر، وتصعيب حياة الناس في غزة، كما صرّحت وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني، بذريعة أنّ ذلك كفيل بإضعاف quot;حكومة حماسquot; ودفع الغزّيين إلى التمرد أو على الأقل الشعور العام بالكلفة العالية للصواريخ التي تطلق على مستوطنة سيديروت مقابل نتائج سياسية وأمنية هزيلة.

لكنّ تداعيات فشل هذا الرهان وكلفته الإعلامية والسياسية والنفسية ستكون كبيرة على الإسرائيليين والسلطة الفلسطينية في رام الله، في حال تمكّنت حماس من الصمود والصبر وتحمّل الغزيّون معها هذه الضريبة الغالية، التي بدأوا دفع ثمنها بعدد من الشهداء الذين قضوا جراء انعدام العناية الطبية.بلا شك فإنّ هذا الصمود سيكون عامل تعزيز ndash; على المدى البعيد- لحماس وتقويةً وتجذيراً لوجودها، وفي المقابل إحراج شديد لعباس وإضعاف له ولنفوذه، مع توقف فعلي للعملية السلمية على الرغم من كل الوعود الأميركية.

***

برصد المناظرات الإسرائيلية فإنّ معضلات رئيسة تقف عقبة أمام سيناريو الاجتياح العسكري لقطاع غزة، الذي تُرجّحه أغلب التحليلات السياسية، وفي مقدمة ذلك سؤال الأهداف السياسية من الاجتياح.

في هذا السياق، ثمة مقولتان رئيستان تحكمان الاستراتيجية الإسرائيلية؛ المقولة الأولى؛ أنّ quot;غزة حماسquot; بمثابة كيان معادٍ لإسرائيل في خاصرتها، ما لا يمكن أن تقبل به إسرائيل، وستسعى إلى تقويضه بالقوة. أمّا الفرضية الثانية؛ فإنّ وجود حماس في غزة يكرِّس الانفصال السياسي-الجغرافي بين الضفة وغزة، ما يخدم المشاريع الإسرائيلية على المدى الطويل، ويُعزز من موقف إسرائيل التفاوضي والسياسي.

القراءة الراجحة تشير إلى غلبة الفرضية الثانية، أي مدّquot;غزة حماسquot; بأسباب الحياة، التيار الكهربائي والمعابر..، ما يعني استبعاد اجتياحٍ عسكريٍ لغزة هدفه تقييض حماس وإعادة القطاع إلى الرئيس عباس. لكن في الوقت نفسه المطلوب إبقاؤها ضعيفة، لا تمتلك الحدّ الأدنى من تهديد إسرائيل.

في حال قامت إسرائيل بالفعل باجتياح القطاع فإنّ ذلك يضعنا أمام احتمالين؛ الأول أنه يهدف فعلاً إلى إنهاء quot;كيان حماس السياسي في غزةquot; وإعادتها إلى الرئيس عباس، ما يعني تعزيز موقف عباس التفاوضي، والمضي قدماً في العملية السلمية، وهو السيناريو الذي ربما لا ترغب به إسرائيل حالياً، أو على الأقل مراكز قوى مؤثرة فيها. أمّا الاحتمال الثاني فيتمثل بأنّ الهدف السياسي من الاجتياح هو ضرب البنية التحتية والعسكرية لحركة حماس وتدمير قدراتها، وتوجيه رسالة في غاية القسوة بأنّ كلفة صواريخ الفصائل المسلحة كبيرة جداً على الغزّيين، وترسيخ قواعد استراتيجية جديدة للعبة بين إسرائيل وحماس.

ربما ينتهي الاجتياح إلى اتفاق ضمني مباشر، أو غير مباشر، بين حماس واسرائيل بوقف إطلاق الصواريخ، وقد تصل الاحتمالات إلى وجود قوات دولية على المعابر الحدودية، كما اقترحت صحيفة هآرتس في افتتاحيتها قبل أيام.

***

على الطرف الآخر، ماذا عن رهانات النظم العربية الصديقة للولايات المتحدة؟..ستكون هذه النظم الخاسر الأكبر، وسوف تزيد حدة الأزمة التي تعاني منها، وتتجذّر الفجوة بينها وبين شارعها المثقل أصلاً بحالة من الإحباط والهموم الاقتصادية وصعود موجة الحركات الراديكالية ونمو نزعة معاداة الولايات المتحدة الأميركية.

ثمة خطأ فادح ترتكبه الإدارة الأميركية والحكومات العربية بالرهان على quot;عجز الشارع العربيquot; في مواجهة ما يحدث في غزة، وربما قد سبق لنا سماع هذا الرهان من أكثر من مسؤول أميركي قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001، لكنهم تفاجأوا أنّ إغلاق القنوات المشروعة لحركة الشارع يعزز ويدعم القنوات الخلفية له، والتي تشكل الاستثمار الأمثل للجماعات الإسلامية الراديكالية. يعزز هذه القراءة ما حدث لاحقاً من موجة quot;المتطوعين العربquot; في العراق، وقبلها في الحرب الأفغانية. تلك الموجة التي استغرقت آلاف الشباب العربي، ممن شعروا بالإهانة والذل من الغطرسة الإسرائيلية والأميركية، فتلقفّوا quot;رسالة القاعدةquot;. وهو مشهد قابل للتكرار والتطوير تحت وطأة الصور المفجعة التي تبث وتشعل فتيل الغضب لدى أغلب شرائح الشعوب العربية.

الشعوب العربية من لحمٍ ودمٍ! وما تزال تُمسك بها مشاعر الكرامة الدينية والوطنية، وهي حالة لم تستطع إلى الآن الإدارة الأميركية إدراكها! وللتذكير فقد روّجت أوساط ثقافية أميركية لنظرية استشراقية جديدة قبيل غزو العراق بعنوان quot;كرة السلة والزجاج المكسورquot;؛ فحوى تلك النظرية أنّ المطلوب ليس استرضاء الشعب العراقي، وخلق قناعة لديه أنّ quot;الولايات المتحدة قوة محبوبةquot;، لكن المطلوب أن يفهم الشارع العراقي، والعربي من ورائه، أنّ الولايات المتحدة قوة حقيقية قادرة على البطش والإيذاء، وأنّها ليست quot;نمراً من ورقquot;، كما يصفها قادة القاعدة.

المفارقة أنّ تشكُّل المقاومة العراقية والعمليات العسكرية التي تشن ضد قوات الاحتلال أثبتت بصورة قاطعة فشل النظرية السابقة وسقوطها. فعلى الرغم من quot;فجوة القوةquot; الهائلة إلاّ أنّ الشارع العربي لا يخضع لهذه الحسابات. فعلى من يريد أن يراقب تفاعل الشارع العربي مع الأحداث ألا يرصد عدد المتظاهرين في الشوارع الرئيسة، وإنما النظر إلى الزقاق الفرعية والطرق الخلفية.

***

لم يعد يُجدِي رهان النظم العربية على سياق أنابولس ولا على انتفاضة من الرئيس بوش باتجاه العملية السلمية، فقد أعلن بوش عن تصوره وظهر وعده للفلسطينيين أسوأ من وعد بلفور عليهم. ولا أعتقد أنّ أحدا يستطيع تسويق رؤية بوش لدى الفلسطينيين أو الشارع العربي.

في المقابل؛ فإنّ كل ما بُني من quot;فرضيات عربيةquot; على خلق نموذجي quot;الضفة الغربية الليبراليةquot; وquot;غزة الأصوليةquot; هي فرضيات فاشلة، لأنّ هذه الفرضيات تقوم على توافر شروط اقتصادية تُعزز من قوة نموذج الضفة ومسار سياسي سلمي يدعم معسكر الرئيس عباس، إلاّ أنّ ما يتم حالياً هو على النقيض من ذلك يعزّز حماس ويُضعف الرئيس عباس ورهاناته على quot;مسار التسويةquot;، بخاصة أنّ العدوان الإسرائيلي الجديد يأتي بعد ساعات قليلة على مغادرة الرئيس بوش المنطقة العربية، على أثر جولة غير موفقة وخطابات سعت إلى التحريض على إيران.

على حكومات quot;معسكر الاعتدال العربيquot; إعادة النظر جَدّياً في رهاناتها الاستراتيجية والفرضيات التي قامت عليها، إذ لا تبدو رياح السياق الحالي معها!