أحمد القديدى

خلال جولة الرئيس الأمريكي بوش الأسبوع الماضي في الشرق الأوسط انطلقت عديد الأقلام الأمريكية تقيم العلاقات الغريبة والعجيبة القائمة منذ تأسيس الدولة العبرية بين الولايات المتحدة واسرائيل وتحاول وضعها على محك المصالح الأمريكية اليوم وغدا. ولفت نظري في هذا الملف تفريق بعض الزملاء الجامعيين الأمريكان ما بين سياسة واشنطن الدائمة تجاه حليفها الاسرائيلي وسياسة المحافظين الجدد في الادارة الحالية للبيت الأبيض تحت رعاية ديك تشيني ورئاسة دبليو بوش. وتوصلت هذه النخبة الى أن الأيديولوجية الراهنة للدبلوماسية الأمريكية كرست منذ وصول بوش الابن الى السلطة الأبعاد الانجيلية المتطرفة للعلاقات بين أمريكا واسرائيل على حساب الربح والخسارة وعلى حساب الشرعي والممنوع وعلى حساب الحق والباطل.

فلم تعد واشنطن في نظر هؤلاء الزملاء الأمريكان حليفة اسرائيل الكبرى فقط كما كانت ولكن تصبح ملهمتها الروحية وقاعدتها الخرافية. وهو أمر ينذر بالخطر لأنه بكل بساطة يلخبط منظومة العلاقات الدولية و يهدد مصالح الأمبراطورية بقوة ويضعها في مصاف الدول quot;الأصوليةquot; التي تؤسس سياساتها على جذور أساطير الأولين لا على أسس القانون الدولي والشرعية الأممية !

يذكر الصحفي (فيليب جيليه) مراسل صحيفة (لوفيجارو) بواشنطن بالزيارة التي أداها دبليو بوش لاسرائيل لأول مرة حين لم يكن سوى المرشح الجمهوري للرئاسة عام 1998 وأخذه آنذاك أريال شارون في جولة بالمروحية فوق الأراضي المحتلة ونقلت الصحف أن شارون أقنع المرشح الأمريكي بأن ما يشاهده من مستوطنات يهودية انما هي قلاع متقدمة لحماية أمن اسرائيل ولكن أيضا قلاع متقدمة للديمقراطية الغربية وسط كنتونات فلسطينية يأكلها التطرف الديني الاسلامي ! ويقول الصحفي إن بوش اليوم وبعد عشرة أعوام هو رئيس الولايات المتحدة وبأنه ما يزال مؤمنا بهذه النظرية ! وهو اعتقاد مخالف لقناعات والده الرئيس الأسبق جورج بوش الأب الذي نظم مؤتمر مدريد للسلام عام1991 وتجرأ على انتقاد المستوطنات واصفا اياها بأنها عقبة في طريق السلام بل ودعا الى انشاء دولة فلسطينية كاملة السيادة وانهاء الاحتلال الاسرائيلي ! وهو الخط الذي واصله بيل كلنتون ببعض التفاصيل المختلفة.

يعلق الصحفي على دموع بوش في النصب التذكاري للمحرقة ( ياد فاشام) خلال هذه الزيارة الأخيرة لبوش ويقول بأن الرئيس مر بتجربة روحية وصوفية انجيلية وهي التي تعرف باسم (الولادة الثانية: بورن أغين) أي اكتشاف ما يعتقده المتطرفون الانجيليون بأن التسريع في عودة اليهود الى الأرض المقدسة سوف يتيح عودة المسيح الى الأرض ! ويؤكد (فيليب جيليه) بأن تمسك بوش بفكرة (اسرائيل دولة يهودية) وتكراره للعبارة مرات خلال الزيارة انما عن ايمان بهذه الأسطورة الأصولية التي يؤمن بها ملايين من الأمريكان! بل وأكثر من ذلك حسب الصحفي فان هذه الأسطورة هي التي تدفع بوش نحو الاعتقاد بأن الميز العنصري بين اليهودي والفلسطيني انما هو أمر ضروري للحفاظ على يهودية الدولة !

وهنا لا بد أن نعرف حجم الناخب اليهودي في الولايات المتحدة. فاليهود يشكلون2% من المجتمع الأمريكي لكنهم أقلية ناشطة وغنية ومتماسكة في منظمة (الأيباك) بشكل يجعلها تستقطب السبعين مليونا من الانجيليين الأصوليين ويوظف شبكات اعلامهم واتصالهم الواسعة ومنابرهم الجمعياتية المدنية التي تخاطب الرأي العام بشكل يومي وتبلغ للأمريكان رسالة المصلحة الاسرائيلية والتفوق الاسرائيلي. ويؤكد الصحفي أن الجالية اليهودية تتحمل أعباء تمويل 50% من الحملات الانتخابية الأمريكية وتتحول بهذا التمويل الى قوة انتخابية كاسحة لا يمكن لأي مرشح أن يستغني عنها.

ولكن نظرية quot;العبء الاسرائيلي الثقيل على الدبلوماسية الأمريكيةquot; لم تتبلور سوى بصدور الكتاب الشهير الجديد لأستاذين في العلوم السياسية بجامعة شيكاغو وهافارد وهما الدكتور جون ميرشايمر والدكتور ستيفن والت وعنوان الكتاب المثير هو (اللوبي الاسرائيلي) حيث كشف الزميلان الأمريكيان عن ظاهرة أطلقا عليها اسم (قيام اليهود باحتجاز السياسة الخارجية الأمريكية كرهينة) وذلك بأدوات (الأيباك) التي تضم 100000 عضو.

ويقول المؤرخ الأمريكي (ايرل راب) بأن كل رئيس أمريكي أصبح يخشى من اقتران التفريط في اسرائيل بالتفريط في اليهود الأمريكيين ! ويضيف (فيليب جيليه) بأن هذه الطبيعة الشاذة من العلاقات بين واشنطن وتل أبيب تحولت الى وشائج عميقة ذات جذور وأبعاد تاريخية وأيديولوجية وعاطفية ولم تعد تقاس بمعيار المصالح العليا للدولة الأمريكية.

وربما من المفيد أن نختم هذا التحليل الموضوعي برأي عبر عنه عمدة نيويورك الأسبق (ايد كوش) حين قال: quot;مرحبا بالسبعين مليون أصولي انجيلي أمريكي الذين يريدون أن يصبحوا أصدقاءنا وسيرون بعيونهم كيف سيعود المسيح الى الأرض كما وعدنا الربquot; وهو ما عقب عليه الصحفي (فيليب جيليه) قائلا بأن العلاقات الأمريكية الاسرائيلية هي من نوع التحالف الديني العقائدي وليس من الصنف السياسي التقليدي وأن بوش الابن ليس أكثر رؤساء الولايات المتحدة تأييدا لاسرائيل ولكنه بالقطع أكثر الرؤساء تمسكا بالدين المسيحي في قراءته الانجيلية الحرفية النصية !

ولعلم القراء العرب الكرام فاننا هنا في عواصم أوروبا وفي مؤتمراتنا التي ننظمها حول أزمة الشرق الأوسط للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني يتهمنا غلاة الأوروبيين من زملائنا بأننا quot;أصوليونquot; وبأننا quot;متطرفونquot; وينصحوننا بأن quot;نتخلى عن الفكر الدينيquot; وأن نكون علمانيين وعقلانيين ومتنورين ! انها قمة المهزلة والمثال الحي على قلب الأدوار!