ديدييه بيليون


يصف البعض موازين القوى في آسيا الوسطى على أنها laquo;لعبة كبرى جديدةraquo;. كانت تسمية laquo;اللعبة الكبرىraquo; قد عنت سابقا الصراع المرير بين روسيا والمملكة المتحدة (بريطانيا) خلال القرن التاسع عشر من أجل السيطرة على القوقاز وآسيا الوسطى. أما المواجهة الدائرة اليوم من اجل السيطرة الإقليمية على مواد الطاقة ونقلها فهي بين قوى جديدة تتمثل في الولايات المتحدة والصين وبدرجة أقل الاتحاد الأوروبي.

أما روسيا فإنها استعادت في الفترة الأخيرة موقعها كقوة كبرى على المسرح الدولي بعد أن تجاوزت العقبات الصعبة التي واجهتها في الفترة التي تلت خروجها من المنظومة السوفييتية. وإذا كانت المؤشرات على استعادة موقعها واضحة في مناطق عديدة فإنها ظاهرة للعيان أكثر في آسيا الوسطى.

في نهاية ربيع عام 2007 اتفق الرؤساء الروسي والكازاخستاني والتركماني على إطلاق مشروع إنشاء مجموعة تكون مسؤولة عن بناء خط أنابيب غاز في منطقة بحر قزوين. ومن المنتظر أن يؤدي ذلك إلى حصول روسيا على حوالي 90 مليار متر مكعّب من غاز آسيا الوسطى في أفق عام 2014.

ونتيجة لهذا الاتفاق يبدو أنه قد جرى تعطيل بناء خط الأنابيب المنافس انطلاقا من منطقة بحر قزوين والمدعوم من الولايات المتحدة الاتحاد الأوروبي والذي كان يُفترض أن يؤمن نقل الغاز من آسيا الوسطى نحو أوروبا الغربية عبر جنوب القوقاز وتركيا وتحاشي روسيا. هذا يعني أن الولايات المتحدة قد أخفقت في بحثها عن تهميش روسيا على الصعيد الإقليمي.

لكن وفيما هو أبعد من موارد الطاقة ، رغم أهميتها الكبيرة نظرا لزيادة الحاجة إليها في الاقتصاد المعولم خاصة بالنسبة للبلدان الصاعدة، فإن مسألة موازين القوة السياسية هي التي تتطور بسرعة كبيرة اليوم. وعدد الاتفاقيات الأمنية الموقّعة، أو التي هي بصدد التوقيع، بين دول آسيا الوسطى وروسيا تدل على ذلك التوجه.

كانت واشنطن تأمل ، على قاعدة التحرّك بعد تفجيرات 11 سبتمبر والعمليات العسكرية ضد نظام طالبان في أفغانستان بعدها، بتعزيز مواقعها في آسيا الوسطى بصورة دائمة. لكن انتشار القوّات الأميركية الذي جرى تقديمه كرد على التحدي الإرهابي تحوّل إلى وجود دائم بفضل إقامة شبكة من القواعد العسكرية.

بالمقابل دعت موسكو منذ عام 2005، ورددت ذلك منظمة شنغهاي للتعاون، إلى تحديد جدول زمني لانسحاب القوات الأجنبية المتواجدة في البلدان الأعضاء في هذه المنظمة.

ضمن مثل هذا السياق قررت الولايات المتحدة الأميركية إعادة توجيه سياستها الإقليمية نحو الجنوب ولوّحت للدول الكبرى في جنوب آسيا، خاصة الهند وباكستان، بإمكانية الحصول على مصادر الطاقة من آسيا الوسطى. لذلك أطلقت تسمية laquo;آسيا الكبرىraquo; على إدارة laquo;جنوب آسياraquo; داخل وزارة الخارجية الأميركيةraquo;.

إن نجاح مثل هذا التوجه يتعلق بعاملين أساسيين. العامل الأول هو استقرار أفغانستان التي تبقى دائما، وتاريخيا، قطب الرحى بين المجموعين الإقليميين المعنيين، والعامل الثاني هو تطبيع العلاقات بين الهند وباكستان. إن إستراتيجية الولايات المتحدة تكمن إذن في إتاحة الفرصة للأخّين العدوين في شبه القارة الهندية لإيجاد موضع قدم لهما في آسيا الوسطى، وذلك في منظور محاولة الإحاطة بأية مخاطرة للانحياز الإقليمي نحو روسيا أو الصين أو حتى إيران. لكن البون لا يزال شاسعا بين المشروع وبين تحققه، لاسيما وأن الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان يتم النظر إليه أكثر فأكثر، من قبل دول المنطقة كأنه تعبير عن رغبة للتدخل تتعارض مع المصالح الوطنية لهذه الدول.

ومما يزيد من الخطورة بالنسبة للخبراء الإستراتيجيين في واشنطن كون أن واقع توجيه مصادر الطاقة من بلدان آسيا الوسطى نحو روسيا والغرب إنما يزيد من قوة جذب مواد الطاقة الإيرانية بالنسبة لدول جنوب آسيا. ثم إن الاهتمام الذي أبدته شركة laquo;غازبرومraquo; الروسية العملاقة مؤخرا حيال مساهمتها في إنشاء خط أنابيب العراق- باكستان- الهند، مع احتمال إيصاله حتى الصين، يوضّح عملية laquo;ليّ الذراعraquo; التي هي بصدد التبلور، كذلك يبيّن واقع أن الولايات المتحدة لم تعد تملك اليوم أفضل الأوراق الرابحة من أجل تحقيق مراميها الإقليمية.

إن إيران، أحد الخصوم الرئيسيين، هذا إذا لم تكن الخصم الرئيسي، بالنسبة لإدارة بوش الذي يريد أن يعزلها بكل الوسائل، وجدت في السياق الراهن مكانة إقليمية استراتيجية متجددة. على ضوء هذه المعايير كلها يمكن فهم الصعوبات التي يواجهها أعضاء مجلس الأمن الدولي من أجل التفاهم على تشديد منظومة العقوبات ضد طهران.

أمّا بكين، فإنها وفي سياق تكثيف علاقاتها مع نيودلهي، تطرح قدرا أكبر من المبادرات من أجل تعزيز روابطها بنفس الوقت مع اسلام اباد. ثم إن الزيادة الكبيرة في الروابط الاقتصادية للصين مع شرق إفريقيا وبلدان الخليج يفرض عليها في الواقع تأمين سبل تواصل مستقرّة مع هذه المناطق. ولا تبدو الطرق البحرية للمحيط الهندي آمنة ما يكفي بهذا الصدد. ومن هنا تأتي إرادة المساهمة في بناء وتحديث وسائل النقل الباكستانية التي ربما ستسمح بإيصال المحروقات نحو الصين بالطريق البري وبتجنب قيام أي حصار بحري مفترض ضد الصين.

ضمن هذا السياق يمكن فهم كون أن الوصول إلى الاستقرار بأفغانستان من جهة وإنقاذ الوضع في باكستان من جهة أخرى يشكّلان هدفين أساسيين للدبلوماسية الإقليمية الأميركية، ولكن أيضا فهم أن تحقيقهما ليس ممكنا في الأفق القريب. إن إعادة صياغة سياسات المنطقة لا تبدو اليوم بمقدور واشنطن لاسيما وأنه ليس هناك أية قوة إقليمية لديها النيّة بقبول أن تلعب واشنطن دور الحكم الجيوسياسي.

إن منطقة جنوب آسيا قد تحوّلت من رأس جسر ممكن نحو آسيا الوسطى إلى نقطة وحيدة للنفوذ الأميركي الموجّه نحو جزء كبير من آسيا. لكن يمكن لتدهور الأوضاع في باكستان أن يقلّص من هذا النفوذ... وإلى درجة زواله تماماً.