سعد محيو

ثلاثة رجال أموات يتناوبون حكم العالم من أضرحتهم، خاصة في أزمته المالية الكبرى الراهنة: ميلتون فريدمان، جون ماينارد كينز، وكارل ماركس.

كل من هؤلاء كان له عصره الذهبي الذي دفع الكثيرين إلى الاعتقاد بأن نظرياته الاقتصادية الفلسفية ستسجل نهاية التاريخ: كارل ماركس منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين. كينز منذ الكساد الكبير العام 1929 1933 إلى الخمسينات والستينات. وفريدمان من السبعينات وحتى انهيار وول ستريت الراهن.

بيد أن صعود أحد هؤلاء إلى قمرة القيادة النظرية للعالم لا يعني السقوط النهائي للآخرين، إذ هما يبقيان كامنين بانتظار تعثر صاحبهما المنتصر. هذا ما حدث، مثلاً، حين غاب كينز فصعد فريدمان في الثمانينات، فإذا بالكرة تستقر الآن في حضن كينز. وهذا ما قد يحدث بعد قليل مع كينز نفسه إذا ما تبين أن وصفاته لحل الأزمة الراهنة ليست كافية، إذ حينها سيعود ماركس بقوة إلى قلب مسرح التاريخ.

ماذا في جعبة هؤلاء الفرسان الثلاثة؟ ولماذا يسيطرون على هذا النحو على عقول الناس وجيوبهم؟

لنبدأ مع كينز.

كتب هذا الإنجليزي الاقتصادي والصحافي والكاتب وعاشق علم الرياضيات في مارس/ آذار 1933: ldquo;نستطيع أن نرى في وضوح الفجوة الكبرى التي يقودنا إليها نهجنا الراهن. فإذا لم تقم الحكومات بعمل ما، فيجب أن نتوقع انهياراً مطرداً للبنى الحالية، وسيترافق ذلك مع تشويه سمعة القيادات المالية والسياسية. وكل هذا سيسفر عن عواقب لا تحمد عقباهاrdquo;.

كينز كان يحاول أن يشرح أسباب الكساد الرأسمالي الكبير في العام 1929 وكيفية علاجه. وهو رفض بقوة فكرة أن اليد الخفية للسوق قادرة وحدها على معالجة الأزمات الدورية للرأسمالية، داعياً الحكومات إلى التدخل والإنفاق بكثافة لحفز النمو مجدداً. هدف كينز لم يكن تغيير النظام الرأسمالي بل إنقاذه من نفسه، وهو بقي حتى وفاته العام 1946 يندد بالماركسية ويدعو الرأسماليين إلى كسب الحرب عبر إدخال جرعة أخلاقية اجتماعية إلى اقتصاد السوق.

أهم أنصار كينز هذه الأيام باراك أوباما الذي أعلن أنه ينوي تنفيذ رزمة كاملة من المشاريع الفيدرالية، والرئيس الفرنسي ساركوزي والعديد من القادة الأوروبيين.

في المعسكر المقابل يقف تلميذ كينز السابق فريدمان (1912 2006) الذي بدأ حياته الاقتصادية كينزياً وانتهى ليبرالياً متطرفاً يدعو إلى تقليص دور الدولة إلى أدنى حد ممكن لمصلحة القطاع الخاص. وهو تقدم في الستينات بسياسات اقتصادية بديلة أطلق عليها اسم ldquo;النقوديةrdquo; دعت إلى منح الحرية للقطاع الخاص ليوسع بقدر ما يشاء تدفق النقود، وحذر الحكومة من التدخل للحد من البطالة وتحسين الأوضاع المعيشية للفقراء. أبرز أتباع فريدمان ريغان وثاتشر والديكتاتور بينوشيه وقادة أوروبا الشرقية بعد العام 1989.

يبقى كارل ماركس (1818 1883) الذي اعتبر أن ثمة تناقضات داخلية في الرأسمالية ستؤدي في النهاية إلى تفجيرها ونهايتها على وقع صراع الطبقات ليولد مكانها نظام اشتراكي جديد، تماماً كما ولدت الرأسمالية من رحم النظام الاقطاعي. لكن ماركس اشترط أن تحدث الثورات الاشتراكية في البلدان التي نضجت فيها الرأسمالية وليس في الدول المتأخرة، لمن سيكون النصر النهائي بين هؤلاء القباطنة الأموات؟

لا نصر نهائياً على الأرجح بل تبادل أدوار وتقاطع وربما تكامل، إلا إذا ما تعرّض العالم إلى كارثة بيئية مهولة بسبب تغير المناخ الناجم عن جنون الجشع الرأسمالي. حينها سيتربع ماركس على عرش العالم، ويستريح.