ويليام فاف - ميديا تريبيون سيرفيس

بقدر ما أصبح الفلسطينيون أسرى داخل إسرائيل أضحى الإسرائيليون أيضاً أسرى تصرفاتهم بعدما أحاطت الدولة العبرية نفسها بأخطاء سياسية وأخلاقية جسيمة فقدت على إثرها القدرة على انتشال ذاتها من المعضلات الناتجة عن السياسات الجبانة للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وتواطئها المفضوح مع اللوبي المدافع عن المستوطنات والساعي إلى مصادرة جميع الأراضي الفلسطينية لصالح اليهود، فضلاً عن الانصياع السلبي من الحكومات الأميركية لكل ما تفعله إسرائيل، دون قيد أو شرط. وفي هذا السياق واصلت المستوطنات، التي تُنعت على الورق فقط بأنها quot;غير شرعيةquot;، توسعها داخل المناطق الفلسطينية بعدما استنكفت الحكومات السابقة عن لجمها (وعلى رغم ما يقال عن عجز الحكومات في وضع حد لها، إلا أنها ببساطة اختارت ألا تقوم بذلك طوعاً) لتصل إلى نقطة لم تعد معها الأحزاب السياسية المتنفذة قادرة على فك الارتباط مع المشروع الاستيطاني النهم وفرض تطبيق القانون.

ولا أذيع سراً هنا إذا قلت إن الهدف الرئيسي الذي تسعى إلى تحقيقه الحركة الاستيطانية هو غزو فلسطين كافة، مع ما يستتبعه ذلك من طرد للفلسطينيين مرة أخرى وتشريدهم من بيوتهم، أو دفعهم إلى القبول بوضع دائم يخضعون فيه لإسرائيل وسياساتها دون الحصول على أي من حقوقهم السياسية الأساسية. وهم إلى حد الآن محرومون من حقوقهم القانونية التي تضمنها لهم التشريعات الدولية باعتبارهم خاضعين للاحتلال العسكري، أما ما يوهم به الفلسطينيون أنفسهم من حكم ذاتي، أو وضع سياسي مستقل فيبقى بدون معنى ما دامت الدولة الفلسطينية غير قائمة، وما دام حلم إنشائها يبتعد يوماً بعد يوم، بل لقد أصبح من غير المفيد الدخول في جدالات عقيمة حول ما آلت إليه الأمور من سوء وانعدام للأمل في الأفق السياسي، لأن الجميع بات يعرف المسؤول عن كل ذلك، وهو إسرائيل. وسواء ظل هذا الوضع قائماً لفترة طويلة بسبب غياب التدخل الدولي الفعال ونهوض المؤسسات الدولية بدورها وتقاعس القوى الديمقراطية في العالم عن الاضطلاع بمسؤوليتها يبدو أن إسرائيل نجحت بالفعل في هذا المسار السيئ وبقيت بمنأى عن الضغوط الدولية.

ومن المستجدات التي طرأت مؤخراً في الموضوع الفلسيطيني/ الإسرائيلي تعيين quot;ريشارك فولكquot; مقرراً جديداً للأمم المتحدة مكلفاً بمتابعة وضعية حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، ومع أن المقرر الذي يعمل أستاذاً للقانون بجامعة برينستون العريقة يهودي الديانة، إلا أن وصوله إلى المنطقة أثار انتقادات شديدة من قبل إسرائيل واليمين اليهودي في الولايات المتحدة. والواقع أن الانتقادات الإسرائيلية غير مستغربة إذا قرأنا البيان الذي أصدره مكتب المقرر الأممي واصفاً فيه quot;المحنة القاسية للمدنيين في غزةquot; مستطرداً أنه طيلة الفترة السابقة quot;علق العديد من قادة العالم على قسوة ولا شرعية الحصار المفروض على غزة من قبل إسرائيل... الذي لا يسمح إلا بمرور ما يكفي بالكاد، أو أقل، لسد رمق العيش من الغذاء والوقود ولتفادي حصول مجاعة جماعية وانتشار الأمراض، لكن سياسة العقاب الجماعي التي تمارسها إسرائيل ضد سكان غزة لمعاقبتهم على التطورات السياسية الجارية داخل القطاع تعتبر انتهاكاً سافراً للقانون الإنساني الدولي بموجب المادة 33 من معاهدة جنيف الرابعة... وأقل ما يمكن فعله أن تبذل الأمم المتحدة جهودها لتطبيق القواعد المتعارف عليها والمرتبطة بمسؤولية توفير الحماية للسكان المدنيين الذين يتعرضون لعقاب يرقى إلى مستوى جريمة ضد الإنسانيةquot;. ويقول المقرر في البيان أيضاً: quot;وفي نفس السياق يبدو من الضروري أن تشرع محكمة الجزاء الدولية في إجراء تحقيق حول الوضع لتحديد ما إذا كان قادة إسرائيل المدنيون والعسكريون المسؤولون عن حصار غزة يستحقون الإدانة والمتابعة القضائية لانتهاكهم القانون الدوليquot;.

وإلى وقت قريب كان الرأي العام الدولي بلامبالاته المعهودة يعتقد أن الوضع في الأراضي الفلسطينية مؤقت، وأنه سرعان ما سيتم التوصل إلى خطة، أو اتفاق ينهي الصراع، لكن الخطط والمبادرات جاءت بلغة فضفاضة تتيح للطرفين التنصل من التزاماتهما، متى شاء أي منهما ذلك. لكن في الوقت الذي قبل فيه الفلسطينيون بتسوية جزئية مع تحفظهم على مسألة اللاجئين، كان الإسرائيليون على الدوام يلقون المسؤولية على الفلسطينيين، في حين ظلت الحكومات اليهودية المتعاقبة تتقاعس عن فرض سلطتها على حركة الاستيطان. وحتى أرييل شارون الذي انسحب من قطاع غزة ما كان يستطيع تفكيك المستوطنات في الضفة الغربية التي دعا رئيس الوزراء إيهود أولمرت في لقاء له مع صحيفة quot;يديعوت أحرونوتquot; إلى الانسحاب منها بما في ذلك القدس الشرقية. ويبدو أن الأصفاد التي تحيط بإسرائيل ضاقت أكثر بعد الانتخابات التمهيدية لحزب quot;الليكودquot; التي كان يتوقع لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، بنيامين نتانياهو، أن يسيطر عليها بسهولة ليختار الناخبون قائمة حزبية أكثر تشدداً من نتانياهو نفسه بعدما صعد خصمه اللدود والمتشدد المعروف quot;موشي فيجلينquot;. وفيما يعارض نتانياهو محادثات السلام الجارية حالياً بين إسرائيل والفلسطينيين ويريد قصرها على التعاون الاقتصادي يذهب quot;فيجلينquot; إلى أبعد من ذلك، حيث يدعو إلى حظر المشاركة البرلمانية على الأقلية العربية ودفع غير اليهود إلى مغادرة البلاد، فضلًا عن رغبته في انسحاب إسرائيل من منظمة الأمم المتحدة.

والأكثر من ذلك تشير استطلاعات الرأي إلى تقدم حزب quot;الليكودquot; في الانتخابات العامة التي ستجرى بحلول شهر فبراير القادم بواقع عشرة مقاعد على منافسه quot;كاديماquot; الذي تقوده وزيرة الخارجية ليفني دون أن ننسى الصدام الذي جرى على خلفية إخلاء أحد البيوت في مدينة الخليل بين السلطات الإسرائيلية وجماعات المستوطنين التي بات واضحاً اليوم مدى تهديدها ليس فقط لعملية السلام، بل أيضاً لتخريبها لجوهر وجود الدولة العبرية.