أحمد الجارالله

يبدو أن حسن نصر الله هو أحد ثلاثة أو أربعة من أهل الكهف, فخطابه الأخير يذكرني بخطابات الراحل جمال عبد الناصر الإعلامية في الخمسينات والستينات, عندما كان الناس يساقون بالترهيب والصرع إلى عرين مغتصبي السلطات, والذين سلبوا شرعية بلدانهم على ظهر دبابة, وأحكموا أمر هذا السلب بطوق حديدي مخابراتي يغيب فيه المواطن عن أهله, دون أن يعرفوا مكانه, والويل لهم لو حاولوا معرفته, وفي كل الأحوال فالموت أقرب إليهم من حبل الوريد.
نصر الله صاحب كذبة النصر الإلهي خطب أول من أمس أمام حشد مبرمج, حشد فاتورته مدفوعة بطريقة أو بأخرى, وقال في خطابه كلاماً كان يردده زعماء الأمس الذين تسلطوا على حكم العالم العربي, وسرقوا كراسي الحكم من أصحابه, وقالوا كلاماً لم يحصد الناس منه سوى العاصفة, لأنهم زرعوا البحر بالوهم... حسن نصر الله راح يجتر في خطابه كلام الأمس الذي سمعه جيلنا, وهو الكلام الذي اضاع علينا فلسطين, وبدد كل فرص السلام المتاحة, وفرص استعادة الأرض وحفظ العرض. كلام زعيم النصر الإلهي هو نفس كلام أولئك الذين خدعوا في يوم من الأيام واضاعوا غزة والضفة الغربية, وكادت ان تضيع معهما سيناء ونفط سيناء وخيراتها الأخرى, وقناة السويس, هو نفس كلام الذين سرقوا إرادتنا يوما وأدخلونا في مسلسل من الهزائم والكوارث والتراجعات, عبر حروب دامية كانت الهزيمة فيها بادية منذ انطلاقة شرارتها الأولى... ومع ذلك فقد كذبوا علينا مثلما كذب حسن نصر الله على شعب لبنان وأقام احتفالات النصر الإلهي, بعد ان دمرت إسرائيل لبنان وقتلت الأبرياء فيه, واجتثت بنيته التحتية, ويبدو أن النصر الإلهي عند حسن نصر الله هو خراب البصرة.
زعيم quot;حزب اللهquot; يبدو أنه لم يخرج بعد من كهفه, ولذلك فإنه ليس على علم بأن الشعوب العربية لم يعد يغريها كلام الاغرار في السياسة وعلم قيادة الشعوب, هو بالفعل لا يعي ان الناس أصبحت أكثر فهما وذكاء من ان تثيرها خطابات حماسية مضحكة, بدليل أن شعب مصر لم يلتفت لزعيق quot; مسيلمة النصر الإلهيquot;, ولم يتجاوب مع بضاعته سوى بعض المظاهرات المعلبة في مقر حزب الله, ومثلها في دمشق, وهي مظاهرات محسوبة ومعروف ماذا سيعطي أكلها, اضافة الى مظاهرات محدودة في العراق. هذا هو نتاج زعيق نصر الله الذي يكاد يقتله الغرور..
في المقابل برزت مظاهرات واحتجاجات وتصريحات أخرى, كلها تلقي اللوم على quot;أشاوسquot; حماس, وتقف مع حماية الشعب الفلسطيني من إسرائيل, ومن طموحات هؤلاءquot; الاشاوسquot; الذين أتلف أذهانهم كثير العلف والخلف.
يبقى ان نتوقف قليلاً لنحاجج أولئك الذين اخذتهم العاطفة كثيراً, وأعمتهم عن رؤية الحقائق, فتصوروا - أو بالادق توهموا - أننا لسنا مثلهم مأسوفين ومألومين على ما يحدث لشعبنا الصابر المبتلي في قطاع غزة, وهو وهم أبعد ما يكون عن الحقيقة, بل ربما كانت حرقتنا أشد من حرقتهم, وألمنا أشد من ألمهم, لكننا لا نريد لهذا الشعب الصابر, وسائر شعب فلسطين, أن يعيش عمره لاعمل له سوى جمع أشلائه الممزقة ومواراة جثث ضحاياه,بسبب زعامات أعماها الطمع والانانية وحب الذات والتعلق بكرسي الحكم... نحن نريد لشعبنا الصابر الصامد أن يتحرر أولا من كابوس اولئك القابضين على رقابه, والذين لم يجلبوا له سوى الدمار والخراب, لكي يمكنه التحرر من سطوة العدو الصهيوني الغادر.
حاشا لله ان نقف في خندق مناوئ لامتنا وللشعب الفلسطيني البطل... بل نحن معهم في الخندق نفسه, ننصرهم ولا ننصر عليهم, وأيضاً لا quot; ننصبquot; عليهم ونبيع لهم الأوهام, كما يبيعها لهم تجار حماس, وزعيم النصر الإلهي... إننا نكتب ما نكتبه غيرة على هذا الشعب الباسل والمقاوم, والذي لا يستحق ما يُفَعل به من أقرب الناس إليه.. بل إنه يستحق قيادة افضل لاتسوقه الى الهلاك والدمار, وينطبق عليها قول الشاعر:
إذا كان الغراب دليَل قومٍ
يمر بهم على جيفِ الكلابِ
يستحق شعبنا الصامد الصابر في فلسطين قيادة لها بصيرة كبصيرة quot;زرقاء اليمامةquot;, ترى الخطر من بعيد فتتحاشاه, وتدرك ما يحاك لها ولشعبها فتنأى عنه, وتتحسب له, وتميل بقومها إلى مواطن الفوز والنجاة.
ما الذي سيجنيه أهل غزة من تلك المجازر التي استدرجتهم إليها زعامات ليس لها أدنى نصيب من حسن التقدير وإدراك العواقب? وما الذي سيجنونه من مظاهرات تخرج هنا أو هناك للتنديد بالعدوان, ثم يعود كل المشاركين فيها إلى بيوتهم ليتابعوا المذابح على شاشات التلفزيون مساء, وهم يشربون القهوة والشاي والعصائر مع زوجاتهم وأبنائهم.
في النهاية, فإننا ندعي اننا الأكثر دراية بالشعب الفلسطيني, والأكثر احساسا بمأساته, وإن كنا فقط لا نساير الغوغاء في غوغائيتهم, وكان حالنا معهم كحال الشاعر العربي الذي قال يوماً:
بذلت لهم نصحي بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا النصح إلا في ضحى الغد.