محمد الحمادي

أدرك الجميع يوم قتل رفيق الحريري يوم 14فبراير 2005 أن ضربة كبيرة تلقاها لبنان بفقدان هذا الرجل، وتمثلت هذه الضربة في خسارة سياسي متزن وقادر على التعامل مع جميع الأطراف بذكاء كبير، وخسارة رجل اقتصاد قوي يمتلك الرؤية والعلاقات التي تجعل من لبنان مركزاً اقتصادياً مهماً في المنطقة. وخسر لبنان في هذين المجالين خسارة كبيرة، ويوماً بعد يوم تنكشف أوجه جديدة لفقدان هذا الرجل.

واليوم وبعد ثلاثة أعوام من استشهاده، يبدو واضحاً بشكل أكبر من قبل أن حجم الخسارة كانت أكبر من السياسة والاقتصاد، فقد جاءت الخسارة في صميم لبنان، عندما أصابت الوحدة الوطنية وزعزعت الثقة بين الطوائف، بل وشقت الصفوف في كل طائفة، فبدا واضحاً أن من اغتال الحريري قصد اغتيال وطن بأكمله وإنهاء حلم كبير كان يراود جميع اللبنانيين بمختلف طوائفهم وأحزابهم في بناء بلد قوي متماسك لا يخترقه المخترقون من الشمال أو الجنوب. السنوات الأخيرة في لبنان لا تختلف عن سنوات الحرب الأهلية (1975-1990)، بل قد تكون أسوأ، فكل شيء متشابه مع تلك الأيام، فلا حكومة ولا برلمان وما هو أسوأ أن في هذه الأزمة ليس هناك حتى رئيس لهذه الدولة!

ثلاث سنوات ولبنان يمر بحالة من التدمير المنظم لكل شيء جميل فيه؛ فبعد أن غادره مئات الآلاف من أبنائه، بدأ يفقد كثيراً من الأمور التي ميزته على مدى سنوات، وعلى رأسها الديمقراطية التي غابت ولم نعد نراها في لبنان، وفي المقابل حضرت الطائفية بشكل قوي، بل وفرضت الذاتية نفسها بشكل مبالغ فيه على الساحة السياسية؛ فبعض القادة السياسيين لا يخجلون من كشف طموحاتهم الشخصية التي تتعارض مع مصالح الشعب والدولة ويستخدمون نفوذهم لفرض شروطهم دون اعتبار للعواقب التي قد تنتج عن ذلك.

من الأمور التي خسرها لبنان، تعطيل عمل الحكومة والبرلمان الذي أصبح أمراً عادياً وروتينياً، وأخشى أن يكون اللبنانيون قد اعتادو عليه ثم يصلون إلى مرحلة يرى فيها البعض أن ليس من الضروري أن تعمل هذه المؤسسات مادامت الأمور quot;مشتquot; من دونها لعدة أشهر أو لسنوات!

كما أن هذه الأزمة كشفت أن عضو البرلمان صار ممثلاً لحزبه أو زعيمه، وليس للمواطن الذي أعطاه صوته، وبالتالي لم يعد النائب يهمه أن يعبر عن حاجات المواطن، وإنما كل ما يهمه هو تحقيق مصالح الحزب وزعيمه... وبالتالي، فإن جهازا رئيسيا كمجلس النواب صار يخضع لاعتبارات حزبية، وربما شخصية، فعندما لا يعجب هذا الحزب أو الزعيم أمرا ما، يتوقف هو ويتوقف quot;أتباعهquot; عن العمل في هذا الجهاز إلى أن تتحقق مطالبه!

وواضح اليوم أن الموالاة والمعارضة وصلا إلى مرحلة الاستعداد للحرب بعد أن بدأا يشعران بالملل من الحالة الراهنة، وأخشى أن كل ما يفصلنا عن الحرب الأهلية، هو أن كل طرف ينتظر quot;غلطةquot; صريحة من الطرف الآخر، كي يبرر لنفسه الرد القوي والحاسم.

كما يبدو أن الفرقاء يوماً بعد يوم، تزداد رغبتهم في الاستفراد بالسلطة ويبدو أنه كلما طال وقت القطيعة والتجاذبات السياسية كلما شعر كل طرف بأنه الأفضل من الآخر، وربما زادت قناعته بسوء الآخر لدرجة الرغبة في إلغائه. لا أدري إلى متى يمكن أن يضمن اللبنانيون عدم اندلاع شرارة حرب حقيقية! ولا أدري من أين يستمدون هذه الثقة التي تصل إلى درجة الغرور السياسي المفرط في أنهم مسيطرون على الوضع. والتاريخ يعلمنا أن الغرور في السياسة يعني الوقوع في المناطق الخطرة، وهذا ما يشعر به العالم من حول لبنان وكثير من اللبنانيين، باستثناء السياسيين الذين يصرون على أنهم يسيطرون على الوضع، وأنهم لا يريدون الحرب.

وهذا غير صحيح بدليل التصريحات التي انطلقت بداية هذا الأسبوع من كلا الطرفين، كما أن تلك الادعاءات ليست منطقية، لأن من لا يريد الحرب يفترض أن يبتعد عن أسبابها، لكن ما نراه اليوم هو أن الفريقين يقتربان يوماً بعد يوم من منطقة الحرب، بل من بؤرة هذه الحرب الأهلية -لا قدر الله- التي عطلت لبنان عقداً ونصف من الزمان.

لا يبدو أن الفرقاء السياسيين في لبنان أنبياء معصومون من الخطأ حتى أولئك الذين يتغنون بـquot;النصر الإلهيquot; المزعوم... كلهم غارقون في وحل الخطيئة والأنانية والمصالح الشخصية على حساب الوطن الذي هم مستعدون لتقسيمه من أجل إرضاء غرورهم وطموحهم الشخصي.

كانت ملفتة تلك quot;الشجاعةquot; التي تحلى بها وليد جنبلاط قبل يومين عندما أعلن أنه مستعد لحرب أهلية وإنْ أتت على الأخضر واليابس، ويبدو أن السياسيين العرب لا يكفون عن الاستعداد بالتضحية بأنصارهم وأبناء شعبهم، فالجميع يعرف أن الحرب عندما تقع، فهي لن تطال جنبلاط ولا غيره من زعماء الموالاة أو المعارضة، وإنما ستحرق الأطفال والنساء والمواطنين الأبرياء، فهل هذا ما يسعى إليه أي زعيم سياسي؟!

إنهم غير مستعدين للتنازل، بل للحرب وحرق الأخضر واليابس كالملوك لا يريدون أن يتركوا شيئاً يعتبرونه جزءا من مكتسباتهم الشخصية والطبيعية. وعندهم الاستعداد المطلق للحرب وحتى يموت آخر واحد من أبناء شعبهم من أجل المحافظة على تلك المكتسبات ويبقوا هم موجودين! الموالاة والمعارضة لا يختلفان عن أولئك الملوك الذين يرفضون التخلي عن عروشهم، حتى لو كان ذلك من أجل أوطانهم وأبناء شعبهم. من الصعب تأييد أي فريق في لبنان ضد الآخر ليس لأنهم جيدون ويقطرون فضيلة، بل العكس تماماً لأن كل فريق أسوأ من الآخر وأخطر من الآخر على لبنان، على الأقل هذا ما نراه من الخارج ونحترم ما يراه اللبنانيون من الداخل؛ فالفريقان شريكان في إيصال البلد إلى مرحلة الخطر الحقيقي.

الشيء الجديد في الحالة اللبنانية أنه كلما طالت الأزمة زاد شك فئة من اللبنانيين في أقرب أصدقائهم، بل لم يعودوا يفرقون بين الصديق والعدو، وصار لدى البعض الاستعداد التام أن يتهم العالم بأسره بالتآمر عليه! فمنذ أيام استقبل العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز النائب وليد جنبلاط في الرياض من أجل بحث حل للأزمة، لكن الذي حصل أن وليد جنبلاط بعد أن عاد إلى لبنان أطلق تهديداته النارية واستعداده لخوض حرب أهلية جديدة، فاعتبرت المعارضة أن الضوء الاخضر بالحرب الأهلية صدر من الرياض! وهذا غريب، فالجميع يعرفون الملك عبدالله ومواقفه العروبية الصادقة، ويعرف من يكون، والجميع يعرفون ما هو جنبلاط!

وعندما جاء عمر موسى منذ أسبوعين تقريباً بالمبادرة العربية لحل الأزمة اللبنانية، اتهمته المعارضة بأنه لا يعرف اللغة العربية، وأن عليه أن يتعلمها قبل أن يذهب إلى لبنان! وعندما تدخلت فرنسا والولايات المتحدة ودول غربية أخرى، قالوا إن لهم مصالح في لبنان يريدون الحصول عليها ولا يريدون مصلحة لبنان!

واضح أن العالم بأسره تدخل لحل الأزمة اللبنانية وإنقاذ لبنان من أي خطر محتمل، لكن للبنانيين رأيا آخر، لذا قد يكون من الأفضل أن يصل اللبنانيون إلى حل من الداخل إلى الداخل، قبل أن يفقدوا الثقة في أنفسهم أيضاً. أخيراً لا بد أن نشير إلى أن من quot;فوائدquot; هذه الأزمة في لبنان أنها أكدت من جديد أن الدول لا تقام على الطوائف ولا الأحزاب ولا الزعماء الأفراد ولا غيره، فالدول تُقام على أبنائها المواطنين وعلى الولاء للوطن وعلى الدستور والقانون الذي يساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات دون النظر إلى دينهم أو أصلهم أو طائفتهم أو حزبهم، وليست هناك دولة لها خصوصية عن غيرها أو مستثناة من هذه القاعدة؛ فبالأمس رأينا ماذا حدث بالعراق واليوم ندعو الله أن يحفظ لبنان.