سليمان الهتلان

يا لها من صدمة ـ وهي أخطر من وصفها بالصدمة ـ أن نرى تلك الطوابير المتزاحمة أمام المخابز ومحلات بيع الدقيق في أكثر من قطر عربي. هل يعقل أن تصل بنا سوء الحال إلى التدافع أمام المخابز والموت في طوابير الانتظار من أجل الحصول على رغيف خبز؟

أليس في هذه الصورة المخيفة لطوابير المنتظرين أمام المخابز - في أكثر من مدينة عربية ـ دليل ساطع على فشل كبير في خطط التنمية في المنطقة العربية؟ وهل تفيقنا أزمة الخبز الراهنة كي نعيد النظر في خطط التنمية ونبدأ جدياً في ترتيب أولوياتنا التنموية؟

أسئلة محرجة تتبعها يتبعها مزيد من الأسئلة. ففي ظل اليأس المهيمن على المنطقة، هل نلوم آلاف الشباب العرب إن بحثوا عن أي فرصة للهجرة الدائمة إلى الغرب؟ تلك أسئلة أثق أنها تثار اليوم في أكثر من عاصمة عربية غير أن الأهم من طرح الأسئلة هو البدء في تنفيذ مشاريع تنموية تأخذ في الحسبان أهمية البحث عملياً عن آليات ضمان laquo;الأمن الغذائيraquo; عربياً قبل أن تكبر المشكلة وتزداد تعقيداً.
واحدة من الأسباب الجوهرية في هذه الأزمة تأتي في غياب القراءة الصحيحة والدقيقة لما يحدث اليوم في العالم من حولنا. يخبرني مسؤول خليجي كبير قبل أيام أن بلاده الآن تعاني من عودة كثير من الخبراء والمهندسين الناجحين الهنود إلى بلادهم لأن النمو الاقتصادي المستمر في الهند بدأ يوفر لهم خيارات أفضل مما هو متاح حتى في بلدان الخليج العربية.
الطبقة المتوسطة في الهند تنمو بشكل متسارع وفي نموها زيادة في الطلب على المواد الغذائية التي تصدرها الهند وزيادة في العروض المغرية للخبراء الهنود في الاغتراب. ليس جديداً القول أن نمو الطبقة المتوسطة في أي بلد هو دلالة صريحة على صحة الاقتصاد وخطط التنمية في ذلك البلد.
وفي المقابل، كلما تقلصت الطبقة المتوسطة في أي بلد كلما زادت الفجوة بين أقلية فاحشة الثراء وأغلبية ساحقة تقارب خط الفقر. المؤسف أن بيننا - ممن يعنى بالتخطيط والتنمية - من ظن طويلاً أن العالم سيبقى على حاله وأن الهند - مثلاً - ستبقى فقيرة تصدر الأرز والعمالة للعرب فيما نظل نحن في العالم العربي نبيع النفط ونشتري الغذاء وما يصنعه الآخرين وكفى الله المؤمنين شر القتال!
هنا تزداد الصورة قتامة. وحينما تصل الحال بمجتمع يموت أفراده في طوابير الانتظار أمام المخابز فتلك دلالة أخرى على أننا أمام كارثة خطيرة لن يتحقق معها أي سلم اجتماعي أو استقرار سياسي، تلك فعلاً خيبة أمل جديدة تعيشها منطقتنا اليوم وربما تقود إلى ما هو أسوأ.
في العالم العربي اليوم، نحن أمام أزمة ضخمة تتمثل في زيادة خطيرة في عدد السكان مقابل انخفاض متواصل في مستوى دخل الأفراد وهجرة متلاحقة للقدرات البشرية التي تبحث - معذورة - عن نافذة أمل خارج حدود منطقة تعصف بها المخاطر من كل اتجاه. والهجرة نحو الغرب أصبحت اليوم طموحاً وأمنية لآلاف الشباب في البلاد العربية فمن يحصل منهم على laquo;فرصة العمرraquo; وهي الهجرة إلى أوروبا أو أميركا تحديداً كالناجي من محرقة!
وفيما تزداد منطقتنا تصحراً وجفافاً وتتواصل الأزمات الاقتصادية وتتكاثر المخاطر من كل صوب تواصل النخب انشغالها بمصالحها الخاصة أو بصراعاتها الفكرية (بين الحلال والحرام والتكفير والتحريض) غافلين عن الحقيقة الأكيدة: الجميع في سفينة واحدة، أم أننا - كلنا ـ فعلاً في نفق لا يؤدي أبدا إلى نقطة ضوء؟ ومع كل هذا ثمة من يسأل: لماذا يهاجر الشباب العربي إلى الغرب؟
في الوطن العربي اليوم آلاف من النماذج النابغة التي حتماً سنخسرها في هجرتها أو في بقائها. فكيف لنابغة أن ينجح في بيئة لا تملك أن تهيئ أمامه أية فرصة للنبوغ والنجاح؟
قبل سنتين التقيت بشاب فلسطيني اسمه أحمد يدرس في الجامعة الأميركية في الشارقة. لم يكن أحمد يترك فرصة للسؤال عن الجامعات الأميركية إلا ويقتنصها. من أسئلته تعرف بسهولة مستوى طموحه وتطلعه للتميز. وكنت وما زلت أستثمر أي فرصة للحديث عن أحمد وما يمثله من طموح وجد ونبوغ وتطلع نحو الأفضل.
هذا هو النموذج الذي تمنيت وأتمنى أن يتكاثر في بلداننا. عاد أحمد لدراسته وانشغلت أنا بما أنا فيه حتى جمعتني به الصدفة قبل أيام في المركز التجاري بدبي. أين غبت يا أحمد؟ كان يجيبني وحماسه الذي أعرفه فيه يطغى على صوته: أخطط لرحلتي إلى نيويورك للعمل هناك.
وقبل أن أسأله عن فكرة مواصلة دراسته في أميركا، وهي طموحه القديم، بادرني يطمئنني بأنه يخطط للعمل في الوول ستريت لسنتين أو ثلاث حتى يؤسس لمستقبله وحتى يسهل قبوله في إحدى الجامعات الشهيرة في أميركا تلك التي تقدر الخبرة العملية كما تقدر التحصيل العلمي. لكن أحمد فاجأني وهو يتحدث بثقة في رؤيته عن حرصه على إنجاز طموحه في الدراسة والعمل في أميركا كي يؤمن مستقبله ومستقبل أولاده.
ففيما والدي أحمد يفكران في راهنه بدأ أحمد يفكر مبكراً في مستقبله وفي مستقبل أبناءه اللذين لم يلدوا بعد. هذا هو النموذج الذي يحتاجه الوطن العربي لأنه يفكر في غده أكثر مما يفكر في يومه وهذا هو النموذج الذي ـ للأسف - تخسره مجتمعاتنا المزدحمة بالمنشغلين بأنفسهم وبيومهم تاركين أمر غدهم للمجهول! أم أننا أمة تسيّر أمورها بالبركة؟ وهل ستسوء بنا الأحوال في الوطن العربي فنبقى أمام خيارات كثيرة للموت كالموت عطشاً أو الموت انتظارا لرغيف خبز أو الموت على طرق الموت بين المدن أو الموت تحت وطأة حروبنا وفتاوينا وجهالاتنا وخيباتنا؟ محزنة هي تلك الأسئلة!