صالح القلاب

كانت مجرد صدفة غير مرتبة، فقد كنت الى جانب صديق التقيته خارج الأردن، بدأت الصداقة بينه وبيني قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وفجأة قطع حديثنا في شؤون بعيدة عن السياسة والسياسيين رنين جرس laquo;نقَّالraquo;.. لم أحاول استراق السمع ولا التقاط بعض رذاذ الحديث، الذي كنت أسمع شقاً واحداً منه، لكنني بحكم كل هذا التاريخ الطويل في مهنة المتاعب، التي بينها وبين الأساليب والطرق والعادات المخابراتية أواصر قربى كثيرة وعلاقات خؤولة وعمومة، أدركت أهمية من كان على الجانب الآخر من الخط الهوائي، وأدركت أن الحديث الذي كان يجري في غاية الأهمية.

قال صديقي هذا، وهو ينفجر في ضحكة مدوية: laquo;إنه الى جانبي.. هل تريد أن تتحدث معهraquo;، وناولني هاتفه النقال، وفوجئت ان المتحدث على الطرف الآخر هو الأستاذ عبد الحليم خدام، الذي لم أعرفه وجهاً الى وجه إلا معرفة قديمة جداً عابرة، والذي عندما كان هو قد بدأ صعود السلم القيادي في منتصف ستينات القرن الماضي، كنت أنا لا أزال طالباً في السنة الأولى الجامعية، وكنت في حقيقة الأمر أعيش حالة تشوش وتشويش سياسي لأسباب كثيرة.

أسمعني الأستاذ عبد الحليم خدام كلاماً جميلاً، وكان متأنياً في الكلام وفي غاية التهذيب، وهو بعد ان أطرى على كتاباتي في هذه الصحيفة laquo;الشرق الأوسطraquo;، أبلغني أنه سيطلق قريباً فضائية تنطق باسم laquo;المعارضة السوريةraquo; ثم ولأنه ربما أحسَّ بأن لدي أشياءً كثيرة أتردد في قولها، لأن الوقت ليس وقتها ولا المجال مجالها، وعد بأن أول إطلالة له على هذه الفضائية، ستكون وقفة مع الذات ووقفة مع مسيرة الحزب والحكم، الذي شارك فيه في مواقع المسؤولية المتقدمة لسنوات طويلة.

بعد أقل من إسبوعين قرأت ثلاث حلقات على مدى ثلاثة أسابيع، نشرها زميلنا المخضرم غسان الإمام في هذه الصحيفة، وقد فوجئت، كما ربما فوجئ غيري، بأنه ضمَّن هذه الحلقات الثلاث انطباعات في غاية الإيجابية، عن رجل كان يعتبر جبين النظام السوري المقطَّب دائماً ولسانه اللاذع الذي لم يوفر أحداً، والذي من المفترض أن ذاكرة كل صحافي وخَطَ الشيب مفرقه، تزخر بالكثير من القصص حول مواجهاته مع ياسر عرفات وغير ياسر عرفات من المسؤولين العرب، الذين تنطبق عليهم صفة laquo;الخاصرة الرقيقةraquo; والضلع القاصر!!

وأنا أقرأ هذه الحلقات الممتعة فعلا أولاً لأن الكاتب هو أستاذنا المخضرم الكبير غسان الإمام، وثانياً لأن الذي يجري الحديث عنه هو هذا الرجل الإشكالي عبد الحليم خدام، وثالثاً لأنني كنت رقماً صغيراً في هذه المعادلة السياسية التي يجري الحديث عنها، ولأنني أعتبر نفسي شاهداً على جزء من تلك المرحلة.. وأنا أقرأ هذه الحلقات توقفت مليّاً عند ما قاله (أبو جمال) عن مجموعة صلاح جديد ـ نور الدين الأتاسي التي شارك الرئيس الراحل حافظ الأسد في الانقلاب عليها في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970.

لقد وصف مرحلة هذه المجموعة التي امتدت من الثالث والعشرين من فبراير (شباط) عام 1966 وحتى نوفمبر عام 1970 بأنها كانت نظيفة ولم تعرف الفساد، وهذه مسألة في حقيقة الأمر يعرفها كل مواطن سوري عاش تلك المرحلة، حيث كان رئيس الجمهورية الذي هو الدكتور نور الدين الأتاسي، يعيش في شقة صغيرة الى جانب شقق كثيرة في عمارة غير مميزة، وحيث كان صلاح جديد يستخدم سيارة laquo;بيجوraquo; يقودها في معظم الأحيان بنفسه، وحيث رئيس الوزراء يوسف زعين يشاهد في الكثير من الأحيان في أحد مطاعم الدرجة العاشرة في حي الشعلان الشهير في دمشق، وهذا أيضاً هو وضع الدكتور إبراهيم ماخوس الذي عندما لجأ الى الجزائر للعيش فيها بعد انقلاب نوفمبر عام 1970، أصر على ألا يتقاضى إلا راتب الطبيب الجزائري وبالعملة الجزائرية.

إنه غير مطلوب بالنسبة لغير الأشقاء السوريين، ان يبدأ الأستاذ عبد الحليم خدام بث الفضائية، التي يريدها ان تكون الناطقة بلسان المعارضة السورية، بانتقاد نفسه وانتقاد تجربته الشخصية في حكم حزب البعث المتواصل بكل محطاته منذ خمسة وأربعين عاماً، لكنه مطلوب ومهم ان يتناول وبجرأته المعهودة، تجربة هذا الحزب كحزب، وكيف انقلب الرفاق على رفاقهم في الثالث والعشرين من فبراير عام 1966 ثم بعد ذلك في نوفمبر عام 1970 ثم كل المذابح التي نفذها صدام حسين ضد رفاقه.

لا بد أن يتكلم الأستاذ عبد الحليم خدام عن كل هذه الأمور، إذْ أن ما في صدره ليس ملكاً له وحده، وإنما هو ملك للشعب السوري وللشعب العراقي، ولكل الذين مرَّوا بهذا الحزب وتوقفوا ذات يوم في إحدى محطاته، بل ولكل عربي صدَّق في سنوات العواصف والصخب القومي، ان الأمة العربية أمة واحدة، وأن هذه الأمة ذات رسالة خالدة.

لم يبق من الذين تصدروا الصفوف الأولى في مرحلة ما قبل laquo;الحركة التصحيحيةraquo;، التي من المتوقع ان يقول الأستاذ عبد الحليم خدام باعتباره كان ساعد الرئيس حافظ الأسد الأيمن في القيام بها ما هو ذلك الذي صححته هذه الحركة التصحيحية، ما دام أن النظام الذي انقلبت عليه كان نظيفاً وغير فاسد وما دام ان سوريا، كما قال (أبو جمال) شهدت بعد ذلك فساداً ما مثله فساد، حتى في دول أميركا اللاتينية، إلا الدكتور يوسف زعين الذي لتطهريته وبساطته يعيش الآن في بيت من غرفة واحدة في بودابست والدكتور إبراهيم ماخوس، الذي رفض التعاون مع نظام صدام حسين ضد حكم الذين انقلبوا عليه وعلى رفاقه، رغم كل المغريات التي عرضت عليه وعلى المجموعة التي بقيت تلتزم بما يسمى مرحلة نور الدين الأتاسي ـ صلاح جديد.

لا خلاف على أن مرحلة نور الدين الأتاسي ـ صلاح جديد، كانت مرحلة مراهقة سياسية ومرحلة تزمت عقائدي وضع سوريا في عزلة خانقة، وقد أدى هذا الى ان هذه المجموعة قد دفعت الثمن غالياً، عندما ارتكبت حماقة إرسال دبابات الجيش السوري مموهة بشعارات جيش التحرير الفلسطيني الى الأردن إبان أحداث سبتمبر (أيلول) عام 1970 الشهيرة والمعروفة، لكن المتوقع وبالمقدار ذاته ان يشمل الأستاذ عبد الحليم خدام بمراجعته المرتقبة مرحلة التدخل السوري اللاحق في شؤون لبنان، وإيصال هذا البلد العربي الى ما وصل إليه، وبخاصة أنه الأعرف بتعرجات تلك المرحلة وبتداخلاتها الكثيرة، لأنه كان رقماً رئيسياً في معادلتها السياسية.

قد لا يستطيع الاستاذ عبد الحليم خدام ان يحقق شعار التغيير الذي رفعه، بعد أن نأى بنفسه عن النظام الذي كان رمزه الثاني، وبعد ان خرج من سوريا فاراً بحياته وحياة أبنائه وعائلته، ومعه كل الحق، فالمعادلة السورية الحالية شديدة التعقيد، وهي تتداخل فيها العوامل الداخلية مع العوامل الإقليمية والدولية، ثم وانه في حقيقة الأمر، لا توجد هناك أي معارضة منظمة حقيقية وفاعلة في الداخل يمكن الاعتماد عليها للقيام بمثل هذا التغيير في المدى القريب والمنظور، وهذا يجعل ان مجرد الانتقادات والمراجعات التي وعد بها (أبو جمال) يعتبر إنجازاً مهماً بالنسبة للأجيال السورية والعربية التي من المفترض ان تعرف الحقائق، وأن تطلع على واقع سيشكل بحلوه ومره جزءاً من التاريخ العربي في هذا القرن وفي القرن العشرين الذي سبقه.