خالد الحروب

لم تقل شراسة الحرب على التاريخ الفلسطيني أو تاريخ العرب في فلسطين عن شراسة الحرب العسكرية عليهم. ففي قلب فكرة المشروع الصهيوني حول، وفي فلسطين، ومنذ لحظة الابتداء كان هناك همّ quot;فبركةquot; الادعاء بأن فلسطين quot;أرض بلا شعب تنتظر شعباً بلا أرضquot;. وتجسدت الترجمة العملية لذلك الهمّ بأشكال مختلفة أهمها خلق وعي زائف محلي وعالمي بالرواية الصهيونية ودعمها بالدراسات التاريخية والآثارية والأركيولوجية، وتخليق تاريخ استرجاعي ينسجم مع الرؤية الصهيونية الاستعمارية لإقامة إسرائيل. وما أريد له أن يترسخ في المخيلة العامة, القريبة والبعيدة, وقد نجح إلى حد لا يُستهان به, هو أن أرض فلسطين كانت جرداء من السكان والحضارة والتواصل البشري, وأن كل ما تواجد فيها لا يتعدَّى مجموعات غير منتظمة من البدو أو الفلاحين الذين لم يشكلوا يوماً مجتمعاً متكاملاً أو حالة تاريخية أو حضارية متماسكة. أما مدن الساحل الفلسطيني التي كانت تعجُّ بالحركة الحضارية والتجارية من غزة إلى عسقلان إلى يافا وحيفا وعكا فازدهارها كان عابراً أيضاً، ولا علاقة له بالفلسطينيين بل بحركات الغزو والاحتلال والتجارة التي تعاقبت على فلسطين. وفي القرون الأخيرة, أي في العهد العثماني, كانت فلسطين مجرد بقعة صغيرة مُهملة في أراضي الإمبراطورية المترامية, ولم تعرف الازدهار والحياة إلا عندما بدأت أفواج اليهود تأتيها من العالم فحولتها إلى جنان!
والشيء المدهش والمرير هو أن هذه الرواية المزيفة والفوقية المفروضة على تاريخ هذه البقعة من العالم هي التي سادت ولا تزال تسود في المخيلة الغربية, ناهيك بالطبع عن المخيلة اليهودية. وكانت الباحثة الأميركية الرصينة كاثلين كريستسون قد أصدرت عام 2001 كتاباً حول التصورات الأميركية الشعبية والرسمية عن فلسطين كشفت فيه عن عمق وترسخ الرواية الصهيونية في العقل الجمعي الأميركي, وأشارت إلى أثر الرحالة المسيحيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ثم أوائل القرن العشرين في خلق وعي متخيّل وزائف حول فلسطين الجرداء, التي تنتظر الإنقاذ المسيحي واليهودي. وقد تأبّدت مقولات متعصبة لكُتاب استعلائيين مثل مارك توين من قبيل أن أهل فلسطين البدو يتصفون بالقذارة، وظلت في خلفية النظرة الشعبية والرسمية الأميركية حتى يومنا هذا. وقد تأبَّد ذلك التصور الانحيازي والعنصري المبني على روايات مُفبركة حول التاريخ الفلسطيني, خاصة في الأوساط الأميركية, مع التصاعد المستمر لتيار المسيحية المُتصهينة، الذي يرى في قيام دولة إسرائيل بداية النبوءة لعودة المسيح.
وليس من السهل مجابهة الرواية الصهيونية السائدة نظراً للحليف الأميركي، ولسطوة تلك الرواية على المخيّلة الغربية, التي صهْينت التفكير الأميركي بالفعل كما يناقش (مؤيداً ومفاخراً) ولتر راسل ميد في آخر عدد من quot;شؤون خارجيةquot; (quot;فورين أفيرزquot; يوليو/ أغسطس 2008), عندما يقول: إن السياسة الخارجية الأميركية المؤيدة لإسرائيل ليست نتاج انتصار اللوبي الإسرائيلي, بل هي تعبير عن عمق الصهيونية الأميركية وتجذرها في الوعي الأميركي العام. وهناك بالطبع دراسات وجهود أكاديمية عظيمة جابهت تلك الرواية ولا تزال تحاول تفكيكها ودحض مقولاتها التأسيسية.
ومن هذه الجهود اللافتة والمُقدرة، المؤتمر المُهم الذي نظمته جامعة بيرزيت مع مؤسسة الدراسات المقدسية (فرع مؤسسة الدراسات الفلسطينية في الداخل) بعنوان quot;الأرشيفات والمذكرات والأوراق العائلية والعامة: مصدر لدراسة التاريخ الاجتماعي في فلسطينquot;, وذلك في بيرزيت في اليومين 25 و26 يوليو. وفكرة المؤتمر ريادية إلى حد كبير، حيث أرادت استنطاق جزء كبير وثريٍّ من التاريخ الفلسطيني الاجتماعي الذي لا يلقى اهتماماً يوازي مركزيته في إعادة تأكيد الرواية الفلسطينية لتاريخ فلسطين. فالجوانب التقليدية للتاريخ الفلسطيني التي حظيت باهتمام أكبر هي السياسية وما تعلق بالتحولات الكبرى والاحتلالات المتعاقبة والنضالات التي أنتجتها. لكن التأريخ الاجتماعي ظل يعاني من قلة اهتمام أكاديمي, على رغم أن هذا التأريخ هو الذي يدلل على ديمومة وفاعلية وحضارة الوجود العربي في فلسطين طيلة القرون الماضية. وهذا التأريخ هو الذي يعيد تركيب صورة الحياة وجوانبها الثرية في الاجتماع والتجارة والقضاء والترحال والأدب والتعليم. وهو أيضاً الذي يربط الحواضر الفلسطينية الكبرى الداخلية مثل القدس ونابلس والخليل وأريحا وبئر السبع مع الحواضر الساحلية مثل غزة ويافا وحيفا وعكا, ويكشف عن عمق وتعقد شبكات الحياة والتواصل والتنافس بينها بما يشير إلى بنية حضارية فاعلة.
في المؤتمر قُدمت أبحاث قيمة وعميقة كلها تبحث في جوانب من التاريخ الاجتماعي, واستخدمت المذكرات والأرشيفات العائلية والصور وسجلات المحاكم لتلقي الضوء على جوانب عانت من الإهمال في التاريخ الفلسطيني. وقد وضع بشارة دوماني الأستاذ في جامعة بيركلي إطاراً نظرياً حول استخدام الأرشيفات المختلفة كمصدر للتاريخ الاجتماعي وأشار إلى ضرورة تجاوز النظر إلى هذه الأرشيفات ككتلة صماء وخام من المعلومات, بل اعتبارها منظومة وبنية خطابية تكشف عن طبيعة العلاقات وأنماط التعاملات وتوضح عضوية الشكل الاجتماعي في الفترات المعنية المرتبطة بها. وقد قدم قراءة معمقة في أرشيفات إحسان نمر من نابلس وكيف وفرت تلك الأرشيفات صوراً تفصيلية عن الحياة الاجتماعية في نابلس في القرنين التاسع عشر والعشرين. وفي مثل هذه الأرشيفات تأخذ كل الأشياء أهمية كبيرة الآن: من العلاقات الاجتماعية, إلى الضرائب, إلى تفاصيل الأمور المالية, إلى القضايا والخلافات, وأسماء المواليد الجدد. وهناك أيضاً الانطباعات التي كتبها ويكتبها الذين ينتقلون من مدينة لأخرى, كما ركز بحث كيمبرلي كاتس الأستاذة في جامعة توسون في ميرلاند, التي ركزت على أخبار ومذكرات quot;خليلي في القدس الانتدابيةquot; (سامي عمرو), وهو أحد الشباب من الخليل الذي كان يكتب مذكراته وانطباعاته عن الحياة في القدس خلال فترة الانتداب البريطاني. وفي شمال فلسطين تابع حنا أبو حنا نشاط أحد التربويين الفلسطينيين في مطلع القرن العشرين وهو أسكندر كزما وانخراطه في تأسيس وتنظيم معاهد ومدارس تربوية في شمال فلسطين وجنوب لبنان ضمن بعثات المعاهد والمدارس الروسية.
ولئن كان من الصعوبة فعلاً تلخيص البحوث التي قدمت فربما كان من المفيد تسجيل عناوينها على أقل تقدير. ففي المؤتمر، قدمت أيضاً أوراق بحثت في سجلات المحاكم الشرعية, مثل ورقة محمد غوشه الذي درس أوقاف القدس في القرن السادس عشر من خلال سجلات المحكمة الشرعية, وموسى سرور الذي عالج بعض الإشكاليات المنهجية في سجلات محكمة القدس الشرعية. وقدم خضر سلامة ورقة بعنوان quot;الحمامات في العصر العثماني من خلال سجلات المحكمةquot;, وعادل مناع ورقة بعنوان quot;مصادر جديدة لكتابة تاريخ النكبةquot;, وجورج هنطليان تحدث عن أرشيفات كنائس القدس, ونظمي الجعبة عن سجل quot;رواقquot; للمباني التاريخية في فلسطين واستعمالاتها لرصد تاريخ القرى المدمرة. وتحدث مصطفى كبها عن المواد والوثائق الفلسطينية في الأرشيفات الإسرائيلية, وسامرة إسمير عن أهالي القرى المهجرة في الجليل وعصام نصار عن quot;سنة عصيبة في البقعةquot;. كما قدمت روشيل ديفز ورقة حول خلاصة متابعتها لكل الكتب الصادرة بـquot;العربيةquot; عن النكبة والقرى المُهجَّرة, وعرض جين مايكل دي تارجون مجموعة من الصور الفوتوغرافية التاريخية القديمة لفلسطين العثمانية كمصدر للتأريخ, وقدم أحمد مروات أرشيف صور المصورة الفلسطينية النصراوية كريمة عبود, واستعرض سليم تماري خلاصات مثيرة لأبحاثه حول الجنود الفلسطينيين, مع تركيز على عارف العارف, في منفى وسجن سيبيريا الروسي في الأعوام 1915 إلى 1917. وقدم عادل يحيى بحثاً عن أعضاء البوليس الفلسطيني في فترة الانتداب, وصالح عبدالجواد عن التحولات في ملكية الأرض من خلال الأوراق العائلية أثناء فترة الانتداب, وسميح حمودة عن تفاعلات وعلاقات النخبة الفلسطينية خلال فترة الانتداب. يبقى القول ختاماً: إن مؤسسة الدراسات المقدسية أطلقت مشروعاً للتاريخ الاجتماعي الفلسطيني تدعو فيه الفلسطينيين لتزويدها بنسخ من كل الوثائق القديمة المتوافرة والأرشيفات والصور الشخصية، التي تقدم جزءاً من التاريخ الفلسطيني, بهدف توفير أرشيف موسع على شبكة الإنترنت لكل ما هو متوافر, والنظر إليها نظرة جديدة بحكم كونها تكتسي أهمية تاريخية فائقة.