غسان الامام

الكثافة السكانية تلعب دورا مهما في الجغرافيا السياسية. التفوق العددي يضمن للدولة نفوذا سياسيا إقليميا ودوليا. لكن هذا النفوذ إما أن يكون نعمة أو لعنة للدولة وللمنطقة وللعالم. باستثناء روسيا (150 مليونا) فألمانيا مثال لازدواجية النعمة واللعنة. الخزان البشري (80 مليونا) وفر لألمانيا غزو أوروبا مرتين في القرن الماضي. ها هي المانيا تعود الى رشدها متحالفة مع فرنسا وبريطانيا الأقل سكانا، لصنع سلام اتحادي لم تعرفه اوروبا في تاريخها.

إذا كانت ألمانيا وأوروبا حددتا نسلهما، وربطت الزيادة السكانية بالتنمية ووفرة الانتاج الاقتصادي، فهناك في الشرق الأوسط ثلاث دول ذات كثافة سكانية كبيرة. موطن الخطر يكمن في ان هذه الزيادة تزداد عشوائيا في مصر وتركيا وإيران (77 مليون انسان في كل منها) بمعدل ثلاثة ملايين إنسان مصري وتركي وإيراني كل سنة، من دون أن ترتبط كثافة البشر بكثافة الانتاج.

مع ذلك، فهذا التزايد السكاني العشوائي يضمن للدول الثلاث نفوذا اقليميا متداخلا، بحيث نشهد اليوم بوادر صراع سياسي بينها. الوجه الإيجابي للسياسة والديبلوماسية هو في قدرة الدول الثلاث على ممارسة حوار سلمي بين معسكراتها التي تضم كواكب أصغر في المنطقة.

نهاية القرن الماضي، كانت الدول الثلاث تعرف حدود نفوذها. لكن عودة إيران الى تصدير سلعها الدينية والبشرية الى عرب المشرق والخليج يهدد بتحول الصراع السلمي الى صراع يستهلك السلع البشرية (حرب العراق وإيران مثالا). أعتقد أن الفضل في المحافظة على سلمية الحوار مع إيران يعود الى دولتين: تركيا والسعودية، فهو لا يمنع الاختلاف والخلاف مع إيران. الدور التركي في هذا الحوار يلقى تشجيعا ورضى من العرب. استدارة تركيا من الشمال الأوروبي إلى الجنوب الآسيوي عامل جديد في حيوية الحوار وحرارة الصراع مع إيران.

الدور الحواري التركي العاقل والمتزن يتجنب، إلى الآن، تجديد الاشتباك المسلح الذي طبع تاريخ العلاقة المؤسفة بين الاسلامين السني والشيعي منذ القرون الوسطى، المصالح الثنائية الاقتصادية تفرض الحوار. المصالح السياسية تفرض الصدام، إذا لم تستطع إيران معرفة أين تبدأ وتنتهي حدود الحرية في مد النفوذ.

تبدو تركيا في يقظتها الشرقية حامية للأغلبية السنية في المشرق العربي. سياسة التعقل والاتزان التي ينهجها النظام التركي المتأسلم تشجع العرب، بعد رفض طويل، على درء الخطر الأقرب (الإيراني) بالخطر الأبعد (التركي). العرب يستبعدون يقظة الذاكرة الاستعمارية التركية المغلفة ببرقع ديني. حتى سورية التي كانت أكثر معاناة من تركيا العثمانية، بحكم حدود الجغرافيا السياسية، تقبل اليوم بدور سمسار السلام التركي بينها وبين اسرائيل، بانتظار سمسار أميركي جديد.

لماذا تركيا وليست مصر؟! ربما لأن مصر، بحكم عروبتها، غير مقبولة لدى أميركا واسرائيل كوسيط سلام، في مشرق تريد اسرائيل أن تهيمن عليه سياسيا واقتصاديا في المستقبل. اسرائيل الداخلة في صلح بارد وتطبيع فاتر مع مصر هي التي تروج أكذوبة فقدان مصر نهائيا نفوذها العربي!

نعم، إشعاع مصر السياسي والثقافي والصحافي والفني فقد بعض أَلَقِهِ، ليس بسبب ضعف مصري نسبيا في هذه المجالات، وإنما نشوء مراكز عربية أخرى للاشعاع، ولتحول مركز الثقل السياسي والمادي الى الخليج، ليستقر في السعودية خصوصا. من حسن حظ العرب ان التنسيق قائم بين مصر والسعودية، بما يشكل محورا فاعلا في زمن الاهتراء العربي، وإن كان هذا المحور الثنائي النادر يحتاج الى مبادرات ديبلوماسية وسياسية أسرع.

مصر مبارك تدرك أن مصر تفقد استقرارها وأحيانا استقلالها عندما تفقد نفوذها في المنطقة العربية حولها. كان إنجاز مبارك الأكبر في عودة مصر الى العرب، من أن تنتهج ديبلوماسية ناصر الشعبية. بل أزاح مبارك عمرو موسى عندما اتسمت ديبلوماسيته بشعبوية مضايقة لبعض العواصم. تم نقل موسى الى الجامعة العربية التي هي بشكل وآخر ذراع لا ينفصل عن الذراع المصرية.

دليل آخر يَدْحَضُ المزاعم الاسرائيلية تقدمه أوروبا في إسناد رئاسة laquo;الاتحاد من أجل المتوسطraquo; الى الرئيس مبارك جنبا الى جنب مع صاحب المشروع الرئيس نيكولا ساركوزي، اعترافا بنفوذ مبارك السياسي الكبير. الغريب ان الوسط المصري السياسي يتجاهل دور مبارك النافذ اقليميا ودوليا، يتجاهل وساطته بين الفلسطينيين لإنهاء الشرخ الذي أحدثه انفصال حماس الكارثي بغزة عن الضفة. لكن متاعب نظام مبارك الذي يبدو في صحة جيدة في سن متأخرة، لا تأتي من المعارضة السياسية والإخوانية، ومن العنف الديني الذي نجح في تحييده، إنما تأتي من طبيعة النظام ذاته، في تغليبه عامل الأمن والاستقرار على التسريع في الإصلاح، ومكافحة الترهل البيروقراطي.

إذا كانت مصر راغبة في أن يكون لها الدور التركي المتجدد في المنطقة، فهي لا تبدو في وضع منافس له. لكن تناقض المصالح والأدوار يبدو واضحا في العلاقة بين دول الكثافة السكانية في المنطقة. الهدف اليومي لدى تركيا والعرب هو احتواء الاختراق الإيراني الشيعي للعرب. قمة دمشق (بشار وساركوزي واردوغان وحاكم قطر) لم تكن في الواقع تجديدا للدور السوري، بقدر ما كانت محاولة لسد ثغرة الاختراق الإيراني.

لست في حاجة الى تكرار الحديث عن إيران. فقد كتبت وغيري الكثير عن إعصار نجاد الشبيه باعصاري غوستاف وكاترينا اللذين اجتاحا أميركا. منحت قمة دمشق نظام بشار الفرصة للانسحاب من إيران، تجنبا لمصير مشترك معها، إذا ما اضطر الغرب لتحييد إيران النووية بالقوة.

التقدم التقني لم يصل، بعد، الى درجة التحكم بالأعاصير الجوية. لكن الديبلوماسية قادرة، لحسن الحظ، على التحكم بالأعاصير السياسية. إيران تشاهد بدهشة laquo;براغماتيةraquo; حليفها السوري. لكن النظام السوري من الذكاء بحيث لا ينفصل عن إيران ويمتنع عن التدخل في لبنان، إلا إذا استعادت سورية الجولان.

على أية حال دول الكثافة السكانية لا تشكل خطرا على دول المنطقة الأقل سكانا. لكن بعد عقود قليلة ماذا سيكون الوضع في المنطقة إذا عبرت هذه laquo;الكثافاتraquo; السكانية الحدود باتجاه سورية أو العراق، تبقى الكثافة الإيرانية هي الخطر الماثل. فقد تمددت نحو الخليج منذ عقود. هناك اليوم 400 ألف إيراني قديم وجديد يؤمِّنون من خلال وجودهم في الخليج المتنفس السلعي والمالي، عبر مراكز إعادة التصدير الخليجية المزدهرة، لإيران المحاصرة.







The Editor
رئيس التحريــر Editorial
هيئة التحرير Mail Ad