هدى الحسيني

تسبب تاريخ السابع عشر من هذا الشهر بـlaquo;ايلول الاسودraquo; المالي الاميركي، ولكن على عكس ما حصل اثناء الازمة المالية عام 1929 عندما احتاجت اميركا الى اربع سنوات لتواجهها عام 1933، بعدما اغلقت المصارف ابوابها، وفرغت صناديقها. هذه المرة اخذت الحكومة الاميركية سنة واحدة لتدرك ضخامة الازمة.

ستدخل هذه الازمة التاريخ من اوسع ابوابه، اذ انها سببت خفوت شعلة الرأسمالية والسوق الحرة، وجعلت مؤسسات الـlaquo;وول ستريتraquo; العملاقة تهرع الى واشنطن مستجدية الانقاذ.

في ذلك اليوم الذي هزّ العالم، وجدت المصارف في اميركا، والشركات المالية، وشركات التأمين، والصناديق السيادية، حيث المواطن الاميركي العادي يضع كل مدخراته في laquo;صناديق الودائعraquo; ـ

Money Market Funds (في شركات الاستثمار) وجدت ان السيولة لديها تقلصت كثيراً، وبدأت الشركات المالية التي لديها فائض تسحب هذه الاموال، خوفاً من انهيار المصارف واقفال ابوابه.

ان حجم المدخرات الموجودة في laquo;صناديق الودائعraquo; يبلغ 3.4 تريليون دولار، سُحب في يوم واحد 154 مليار دولار. اموال المدخرات هذه تُستعمل لتمويل القروض القصيرة المدى للمصانع والشركات وقروض السيارات وبطاقات الائتمان.

بعد الهلع الذي انتشر يوم 17 ايلول (سبتمبر) وسحب اموال ضخمة، اضطربت الحكومة الاميركية من احتمال ان يسحب الناس اموالهم، فهذا يعني توقف القروض مما سيؤدي بالتالي الى اقفال شركات ومصانع وفقدان وظائف. هذه الدائرة الخانقة هزت الحكومة الاميركية وبالذات وزير الخزانة هنري بولسون، فجاء تدخلها الحاسم.

قبل ذلك التاريخ باسبوعين، اممت الحكومة اكبر شركتي قروض للمنازل laquo;فاني وفريديraquo; ولهاتين الشركتين موجودات بقيمة 5.5 تريليون دولار. بعد ذروة الازمة تأممت اكبر شركات التأمين في العالم (إي. آي. جي) ولهذه الشركة ممتلكات بقيمة تريليون دولار.

ما اثار هلع الحكومة ان بعض الموجودات المالية لم تجد لها مشترياً بأي سعر، بسبب الخوف والضياع، فاضطرت الحكومة الى تشكيل مؤسسة جديدة لشراء القروض الهالكة التي ستكلفها 700 مليار دولار.

بدأت هذه الازمة مع حرب العراق. في ذلك الحين كان العجز في ميزان الحكومة الاميركية يبلغ حوالي 150 مليار دولار، وكانت التوقعات بأن الحرب ستكلف 80 مليار دولار. لكن تكلفة الحرب وصلت حتى الآن إلى 700 مليار دولار وأدت إلى ارتفاع اسعار النفط. (قبل الحرب كان سعر البرميل 25 دولاراً). وسيصل العجز في ميزان الحكومة هذا العام إلى 400 مليار دولار، يضاف إلى هذا تخفيض سعر الفائدة. وتراكم الديون الهائلة على الحكومة انعكس على الفرد الاميركي فعمل على رهن بيته ثانية، ولجأ إلى استعمال بطاقات الائتمان، وتسبب كل ذلك بديون يصعب سدادها.

من جهتها وفي الوقت نفسه، حولت المصارف هذه الديون إلى سندات استثمار، وأبقت قسماً كبيراً منها في ميزانيتها وصدرت القسم الآخر إلى العالم، وصارت اميركا بالتالي تصدر الى العالم اضافة الى السلع، الديون والاخطار المالية وازداد جشع قطاعي العقارات والمصارف.

يوم 17 من الشهر الجاري، خسر المستثمرون الاجانب اليابانيون والصينيون والعرب ثقتهم باميركا ويقول خبير اقتصادي laquo;حكيمraquo;: laquo;ان الفقاعات تنتج جنوناً، في طريق الصعود حيث ترتفع الاسعار بشكل فائق يلحق بها جنون الجشع، وفي طريق النزول ومع انهيار الاسعار يرافقها جنون الهلعraquo;. ويضيف: laquo;ان خسارة مؤسسات العقارات بلغت حتى اليوم 550 مليار دولار، لكن في نهاية المطاف عندما تُفتح كل الملفات ستصل الخسائر الى تريليونraquo;. ويشير الى laquo;ان قيمة الخسائر في العالم في قطاعات الاسهم والسندات والعقارات بلغت هذا العام منذ بداية الازمة 17 تريليون دولار، ومن الاسباب التي ادت الى قلق الحكومة الاميركية، الخسائر التي مني بها المستثمرون الاجانب في المصارف الاميركية: اليابان 800 مليار دولار، والصين 400 مليار دولار، ويشمل وضعها الخطة الانقاذية اعطاءهم الاحساس بالثقةraquo;. لكن، يضيف الخبير الاقتصادي: laquo;ما من مكان آخر لهؤلاء لاستثمار اموالهم، اذ تبقى السوق الأميركية الأكبر في العالمraquo;.

يوم 17 ايلول (سبتمبر) اعلنت ادارة الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش سقوط معادلة: laquo;افعلوا ما تشاءونraquo; Laissez - Faire ورأت ان الطريق الوحيد لانقاذ استقرار النظام المالي هو ان تشتري الحكومة كل قروض العقارات التي كانت المصارف حولتها الى رزمة سندات، وباعت قسماً منها، وابقت على القسم الآخر في ميزانيتها.

إن خطة الانقاذ ستزيد من ديون الحكومة الفيدرالية. عندما جاء الرئيس بوش الى السلطة كانت ديون الحكومة الاميركية 5 تريليونات دولار. الآن وبعد ضخ مبلغ 700 مليار دولار لانقاذ النظام المالي، ستصبح ديون الحكومة الاميركية 11.3 تريليون دولار، وهذا يعني ان زيادة القروض وتكاليفها سترتفع على الحكومة الاميركية، وعلى الشركات، وعلى المواطن العادي، وسيزيد من الاعتماد الاميركي على رأس المال الاجنبي ويدفع الى ارتفاع في التضخم، والى تآكل اكثر للسياسة الاقتصادية الاميركية، لأن الحكومة ستقترض، وسوف تزداد الضرائب او تتقلص المصاريف او يحدث الاثنان معاً، وسوف تؤثر الديون المرتفعة، والقروض على النمو الاقتصادي كما حصل في اليابان وايطاليا، وسيدخل العالم كله في نمو اقتصادي بطيء جداً.

ستنتج هذه الازمة مراقبة شديدة، وتؤدي الى تدخل الحكومة الاميركية. وحسب العارفين، فمن اليوم وصاعداً فان هذه المؤسسات واداراتها ورؤساءها سيتعرضون للعقاب والغرامة، اذ سيكون هناك عقاب ينتظر ادارات المصارف اذا اعتمدت سياسات مالية خطيرة. كانت بعض المصارف والمؤسسات المالية الأميركية توفر قروضاً لاستثمارات لا تدرك ماهيتها، واخطأت ادارة الرئيس بوش عندما سمحت منذ اربع سنوات للمصارف بأن تقترض 30 دولاراً مقابل كل دولار لديها، مما دفع الى المخاطرة والجشع. في السابق كان مسموحاً للمصارف ان تقترض 12 دولاراً مقابل كل دولار.

وحسب الخبير الاقتصادي، انتهت الآن النظريات او الافكار التي قالت ان افضل طريق للازدهار هو اطلاق يد الاسواق المالية لتوجيه رأس المال واتخاذ الاخطار، والتمتع بالارباح وامتصاص الخسائر.

لقد ألغت هذه الأزمة نهائياً نظرية ان الأسواق تصحح نفسها. وكان الرئيس بوش قد جاء بنظرية: اتركوا الأسواق حرة، فإذا في عهده، وفي ظل إدارته، تؤمم الحكومة الأميركية مؤسسات قيمتها 6.5 تريليون دولار، وهذا أمر يحدث لا في بلد اشتراكي ولا في بلد شيوعي.

لقد laquo;انتهت الحفلةraquo;، بعد حربين فاشلتين وحرب على الأبواب وأزمة مالية لا مثيل لها، وبعد ولايتين من حكم الجمهوريين!