حسن حنفي

تصعب التفرقة بين ما هو ديني وما هو غير ديني إلا في التراث الغربي وتاريخ العلاقة بين الكنيسة والدولة ونشأة العلمانية. وتستعمل ألفاظ المقدس والدنيوي أو الروحي والزمني أو اللاهوتي والإنساني أو الديني والمدني.

وهو تقابل مصطنع في التراث الإسلامي الذي يوحد بين الاثنين. فالديني دنيوي، لا فرق بين الدين والدنيا. فالدين إصلاح في الأرض وليس إفساداً، تحقيق النفع وليس الضرر. والعقائد وسائل لا غايات، بواعث على السلوك وليست أشياء قطعية خارج الزمان والمكان. ومقاصد الشريعة الضرورية: الحياة، والعقل، والدين والعرض والمال، مقاصد حياتية لا فرق فيها بين الدين والحياة. والعقل والوحي شيء واحد. كلاهما برهاني. والعقل والوحي والطبيعة ثلاثة أنظمة لاكتشاف قوانين الطبيعة.

الخلاف فقط في المنهج، منهج النص في الدين ومنهج العقل في العلم. وفي اللغة، لغة الشرع والعقيدة في الدين، ولغة المنطق والبرهان في الاتجاهات غير الدينية. وفي الغاية رضا الله والفوز بالآخرة في الدين، وتحقيق المنفعة في الدنيا في الاتجاهات العلمانية.

ونظراً لحالة الاستقطاب الشديدة الموجودة في فكرنا العربي المعاصر، وانتشار الوافد الغربي زادت حدة التقابل بين الديني واللاديني. وهو ليس مجرد استقطاب أيديولوجي بل هو أيضاً صراع على السلطة. وكل جناح، الديني واللاديني، يريد الاستحواذ على الدول ونظامها السياسي. فهو الأقدر على تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة وتحويل المجتمع من التخلف إلى التقدم.

ومنذ عصر النهضة عُرف الاتجاه اللاديني العربي في التيار العلمي العلماني الذي أسسه شبلي شميل وفرح أنطون ويعقوب صروف وسلامة موسى وإسماعيل مظهر وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وسار فيه عتاة العلمانيين المعاصرين، جابر عصفور، أحمد عبدالمعطي حجازي، غالي شكري، وفرج فوده. ويتهمون كل اتجاه ديني بأنه أصولي، لا فرق بين تقليدي ومستنير.

وللاتجاه اللاديني عدة محاور للتفكير نظرية وعملية أهمها:

1- الدين لله والوطن للجميع. الدين علاقة شخصية بين الإنسان والله في حين أن الوطنية علاقة مدنية بين المواطنين. الأولى علاقة رأسية، والثانية علاقة أفقية. وهو ما لا ينطبق على الإسلام لأن الرأسي لا يتحقق إلا في الأفقي، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.

2- يريد البعض تأسيس دولة دينية في حين تريد العلمانية تأسيس دولة مدنية. الدولة الدينية تقوم على الحاكمية الدينية في حين أن الدولة المدنية تقوم على الحاكمية للشعب. والحقيقة أن هذا التقابل مصطنع أيضاً. ففي الإسلام صوت الدين هو صوت الشعب. والدين لا يحكم بنفسه بل من خلال الناس ونظمهم التي يستنبطونها طبقاً لظروف عصرهم بحيث تمنع القهر والاستعباد، وتسلط فريق على فريق. فنظام الحكم في الإسلام يقوم على العدل. وهي قيمة دينية وعلمانية في الوقت نفسه.

3- القانون في الدولة الدينية هو الشريعة. وفي ذهن الاتجاه الديني تطبيق الحدود، مع أن الحدود واجبات تقابلها حقوق، حق العمل والحياة والسكن والطعام والشراب والتعليم والعلاج والأمن. وهي حقوق الإنسان التي يدافع عنها الاتجاه العلماني. والشريعة ترتكز على مصالح الناس، تلتقي مع باقي الشرائع الوضعية التي تقوم على المصالح العامة وليس على أهواء البشر والمصالح الطبقية.

4- حقوق المرأة في الاتجاه الديني ما زالت تقوم على قوامة الرجل وأولويته. وهو التصور الشائع للمرأة في المجتمعات الإسلامية باعتبارها مجتمعات تقليدية وليس بالضرورة هو التصور في الشريعة. في حين أن حقوق المرأة في العلمانية هي المساواة مع الرجل في حق العمل واختيار الزوج وطلب الطلاق، والمساواة في الوظائف العامة. والحقيقة أن في الفقه الإسلامي القديم والجديد قراءات إصلاحية مستنيرة لبعض أحكام قانون الأحوال الشخصية لا تفترق عن المواقف العلمانية.

5- يجعل الاتجاه الديني الهوية في الدين الذي يوحد بين جميع المنتسبين إليه في الأخوة أو التضامن أو الوحدة أو الأمة أو quot;الخلافةquot; التي تتجاوز حدود الأوطان والقوميات. وهو تصور طائفي في حين أن الهوية في الاتجاه العلماني هوية وطنية تقوم على مساواة جميع المواطنين في الدولة الوطنية في جميع الحقوق والواجبات بصرف النظر عن أديانهم وطوائفهم ومذاهبهم وأعراقهم.

6- في الاتجاهات الدينية الحريات الفكرية محددة مرشَّدة لأنه quot;لا اجتهاد مع النصquot;، ولا تغيير في الثوابت أو إنكار quot;ما علم من الدين بالضرورةquot;. وفي الاتجاهات العلمانية لا حدود لحرية الفكر وتعددية الرأي. وكل شيء متغير. فالتغير سنة الكون. ولا ثوابت إلا ما يقره نظام العقل ونظام الطبيعة. ودور العقل في الوضع والنقد والرفض والاعتراض وليس فقط التبرير والتسليم والإيمان.

7- وفي الاتجاه الديني التقليدي للعلم حدود. وهو قاصر عن إدراك أسرار الطبيعة وكنه الحقائق. وكل ما توصل إليه العلم موجود في الدين. فلا حاجة للمتدين للعلم لأن الدين أغناه عنه. وفي العلمانية العلم بلا حدود. فكل يوم يرتاد مناطق مجهولة ظن الناس من قبل أنها تند عن العلم وأنها معجزة تفوق قوانين الطبيعة. وقد سخر الله علماء الغرب كي يكتشفوا العلم وتطبيقاته في التكنولوجيا وبالتالي ينال المسلمون الحسنيين في الدنيا والآخرة، العلم والإيمان. في حين يخسر الغرب علمه لأنه لا يقوم على الإيمان.

8- ويعتقد الفكر الديني التقليدي أن التقدم قد تم من قبل باكتمال النبوة وختم الوحي. وأي حركة إصلاحية هي بالضرورة حركة إحيائية تعود بالمسلمين إلى العصور الأولى. والسلف أفضل من الخلف. في حين ترى العلمانية أن التقدم إلى الأمام، وأنه قانون التاريخ، وأن الكمال إلى الأمام، وأن الغد أفضل من اليوم، وأن اليوم أفضل من الأمس، وأن التاريخ لا يرجع إلى الوراء. وهو معنى لا يختلف عن قراءة أخرى للفكر الديني تجعل أيضاً التقدم إلى الأمام.

من الصعب وضع الفكر الديني في سلة واحدة. فبه يمين ويسار. واليمين هو الأكثر شيوعاً. وهو الفكر التقليدي النمطي. واليسار الأقل ذيوعاً لأن الناس لم تتعود عليه، ولأنه باستمرار موضع اتهام بالعلمانية والماركسية والمادية والإلحاد أي بالكفر. والعلمانية في صورتها الليبرالية بها أيضاً يسار ويمين. فالليبرالية العولمية يمين لأنها تتجاوز حدود الأوطان وتخضع لقوانين السوق. والليبرالية الوطنية يسار لأنها تقوم على الرأسمالية الوطنية والاقتصاد الوطني، والإرادة الوطنية المستقلة.

والخطورة في العلمانية أنها قد تنتهي إلى النسبية والغنوصية والشك في كل شيء وأحياناً إلى اللاأردية والعدمية. فلا يوجد مقياس للحقائق إلا التغير المستمر. وهو ما ظهر في بعض الاتجاهات الفلسفية المعاصرة في الغرب مثل ما بعد الحداثة والتفكيكية. فقد أعلن نيتشه منذ نهاية القرن التاسع عشر quot;أن الدين قد ماتquot; وعاش الإنسان. ثم أعلن بارت في منتصف القرن العشرين أن الإنسان أيضاً قد مات. ولم يعد أحد يحيا. وعاد الوعي الأوروبي إلى الكتابة في درجة الصفر عوداً على بدء. ويحتاج إلى دفعة جديدة ثانية مثل الدفعة الأولى في عصر النهضة.

لا يوجد فكر كامل، أصولي أو علماني، ديني أو لا ديني. وإنه لتحدٍّ كبير لفكر ثالث يتجاوز هذا الاستقطاب إلى فكر ديني تجديدي وإلى علمانية تنقد نفسها بنفسها. فيقترب الاتجاهان المتعارضان. ويكون بداية لوحدة وطنية أو ائتلاف جبهوي ينقذ الدولة الوطنية في العالم العربي الإسلامي من ضعفها أمام الخارج وقوتها ضد الداخل. والنماذج كثيرة فيما يسمى عندنا أيضاً بالطريق الثالث.