مدير وكالة الصحافة الفرنسية : الحقيقة أولى ضحايا الحرب

روبرت هولواي قال لـ الأlaquo;الشرق وسطraquo; إن هناك مبادئ وتقنيات عالمية معتمدة في تغطية كل الحروب

بيروت - مايا مشلب

دعا مدير laquo;وكالة الصحافة الفرنسيةraquo; للتدريب روبرت هولواي الصحافيين الى laquo;التزام درجة عالية من الحرفية في تغطية الاحداث والحروب والنزاعات وعدم القفز الى الاستنتاجات واطلاق الاحكام من دون التسلّح بحجج دامغة وبراهينraquo;. وفي حديث الى laquo;الشرق الاوسطraquo; على هامش دورة تدريبية نظّمتها الوكالة بالتعاون مع laquo;برنامج الامم المتحدة الانمائيraquo; في بيروت، ذكّر هولواي بـlaquo;أن أولى الضحايا في الحرب هي الحقيقة، لذلك يجدر بالصحافيين توخي أعلى درجات الدقة والحذر في بثهم الاخبار واعدادهم التقارير انطلاقا من وعيهم الى ان كل كلمة يقولونها أو يكتبونها سيكون لها أثر كبير في توجيه الرأي العام أو خداعه وستترتب عنها نتائجraquo;.
وفيما لفت الى ان الصحافي ليس laquo;ناشطا للسلامraquo; وأن مهمته تنحصر في laquo;نقل الوقائع وتزويد الرأي العام المعلوماتraquo;، نصح بـlaquo;التأكد من كل معلومة مرتين أو اكثر قبل التسرّع واطلاقها بغية تحقيق سبق صحافي، والا فسمعة المؤسسة وسمعة الصحافي ستكونان مهدّدتينraquo;. وفي ما يأتي نصّ الحوار....

gt; كنت تعيش في لبنان ثم انقطعت عنه. لماذا؟ ـ عشت في لبنان ثلاث سنوات. كان ذلك من يونيو (حزيران) 1978 الى يوليو (تموز) 1981، ثم عدت في يونيو 1982 وشهدت الاجتياح الاسرائيلي لبيروت وعدت مرة ثالثة واخيرة في العام 1983، انما لبضعة ايام. واليوم عدت بهدف تنظيم ورشة تدريبية تعلّم الصحافيين توخي laquo;الموضوعية الصحافية في مناطق النزاعraquo;، بالتعاون مع برنامج الامم المتحدة الانمائي.

فالوكالة دأبت منذ بضعة اعوام على تدريب صحافيين في دول العالم الثالث. أما انقطاعي عن العودة كل هذه المدّة فسببه خطف اصدقاء وتصفيتهم. كان ذلك في 1985 وقد شعرت بالمرارة والالم ولم أشأ العودة منذ ذلك الحين.

gt; ما هي النزاعات التي عملت على تغطيتها في لبنان خلال تلك الفترة؟

ـ الواقع انني لم اكن مراسلا حربيا. كنت مراسلا لمجلة اقتصادية اتخذت بيروت مركزا لها، بعدما كانت في باريس. ذلك ان صاحبها كان لبناني الاصل، وكنت اعمل معه في فرنسا. وفي العام 1978، قرّر العودة الى لبنان لاعتقاده أن الاحوال قد هدأت بعد حرب السنتين. فقبلت العرض، غير أن الوضع انفجر من جديد. ولكن رغم الحرب كان التنقّل بالنسبة اليّ كوني أجنبيا سهلا جدا. إذ لم يكن يوقفني أي حاجز، واستطعت ان ازور كل المناطق اللبنانية تقريبا. ذهبت الى الجنوب وأعددت تقارير حول اليونيفيل وحول الكتيبة الايرلندية تحديدا، لكنني لم اكن مراسلا حربيا.

gt; ماذا يمكنك ان تخبرنا عن عملك في لبنان في تلك المرحلة الخطيرة؟

ـ اذكر أن رئيسي كان كاثوليكيا وشريكيه كانا مارونيا وشيعيا وكان الموظفون من الدروز والشيعة والسنّة، والجميع كانوا ينطقون باللغتين الفرنسية والانجليزية. كان ذلك مذهلا. انها الصورة المشرقة التي احتفظ بها عن لبنان. في المقابل، كانت هناك صورة قاتمة بسبب ما يدور من عنف. ففي العام 1982، اتصلت بي صديقة لبنانية كانت تعيش في باريس قلقة جدا على والديها اللذين يقطنان في بيروت، وطلبت مني الاطمئنان الى وضعهما. حين دخلت المبنى كان هناك نساء وأطفال يفترشون المدخل، مجرّدين من أدنى مستلزمات العيش. وحين وصلت الى الشقة كان هناك مسلّح عند الباب، يحذّرني من اولئك الذين في المبنى، رغم انهم ابناء وطنه. كانت هاتان الصورتان تختصران جانبين مختلفين كل الاختلاف عن بلد واحد وفي حقبة واحدة.

gt; هل سبق ان غطّيت حروبا أو نزاعات في الخارج؟ ـ لا، لكنني كنت في نيويورك لدى وقوع احداث 11 سبتمبر (ايلول). كان ذلك الحدث الدرامي الابرز، كان امرا مؤلما جدا ان نرى كارثة بهذا الحجم. gt; هل تغطية الحروب في لبنان، اصعب من تغطية حروب أخرى في الخارج؟

ـ المناطق في لبنان كانت مفروزة بشكل واضح. فهنا تعود السيطرة لهذه الفئة وهناك لتلك الفئة. لذلك اعتقد ان التجوّل في تلك الفترة بالنسبة الى صحافي لاسيما اذا كان اجنبيا، اسهل بكثير منه لصحافي يعمل في العراق حيث الاعمال الارهابية لا يمكن توقّع مصدرها او مكانها. لا اقول ان العنف كان يمكن توقعه في لبنان، انما على الاقل كان يمكن التعايش معه وإن بالحدّ الادنى. كذلك، أذكر جيدا انه بخلاف الوضع الذي كان سائدا في اوروبا خلال الحرب العالمية الثانية حين كانت الدولة موجودة وتصارع قوى اخرى، كانت مظاهر الدولة اللبنانية غائبة تماما خلال الحرب باستثناء مظهر واحد هو المصرف المركزي وثبات الليرة. وكان ذلك بفضل تواطؤ ضمني بين الاحزاب المتصارعة التي كانت أقوى من الدولة.

gt; هل يمكن ان يكون الصراع في لبنان وما وقع من احداث امنية في السنوات الاخيرة، نموذجا يقدّم للصحافيين بغية تدريبهم على تقنيات العمل الميداني ومبادئه؟

ـ أعتقد أن هناك مبادئ وتقنيات مطبّقة عالميا ومعتمدة في تغطية كل الحروب. لا تختلف بين دولة واخرى او نزاع وآخر، لانها عامّة وترمي الى ضمان اكبر مقدار من المهنية والموضوعية. الاهم ان يدرك المراسل المسؤولية الكبيرة المترتّبة عليه في اعلام الرأي العام. وهذا يعني تزويده المعلومات والوقائع لا التحليلات والآراء الشخصية أو الاقوال والشائعات. لذلك عليه تنقية تقريره من الذاتية. وهذا لا ينطبق على الحروب والنزاعات فقط انما على عمله بشكل عام. عليه التأكد من كل معلومة مرتين او اكثر.

gt; ولكن كيف يمكن المراسل الحربي ان يتأكد من كل معلومة من مصادر عدة لاسيما ان حياته غالبا ما تكون مهدّدة؟

ـ نعم، ادرك ان التأكد من المعلومات يبدو امرا صعبا واحيانا مستحيلا، ولذلك يعتبر عمل المراسل الحربي صعبا جدا ولا يمكن ايا كان القيام به. ففي أوضاع كهذه، واذا استحال التأكد مثلا من مصدر النيران، عليه الا يسارع الى اعلان مصدر فقط لان احدهم قال له ذلك او لانه يعتقد ذلك. ولا يمكنه ايضا الوثوق بالمعلومات التي يزوّدها اياه مصدر من الجيش او اجهزة الامن. لذلك اذا اراد المراسل نقل معلومة ما عليه دائما ان ينسبها الى مصدر معيّن وعدم تبنّيها (...). في الحروب والاضطرابات يزداد الخوف والقلق ويزداد معهما بث الشائعات وتناقل الاخبار غير الموثوقة. مثلا حين غزا صدام حسين الكويت نقلت تقارير صحافية ان هناك جرحى يتم اخراجهم من المستشفيات ليموتوا.

وهذا لم يكن صحيحا بل مجرد شائعات. لذلك على الصحافيين ان يدركوا ان تناقل الشائعات والاقاويل يكثر في النزاعات ويصبح التأكد من المعلومة اصعب بكثير. من هنا تكمن اهمية التأكد من اصغر معلومة قبل بثّها. وأكرّر ان على المراسل ان ينقل المعلومات والوقائع وان يفصل بينها وبين الاقاويل والشائعات. والاهم ان عليه عدم استخدام لغة مشبعة بالكلمات العاطفية.

gt; ولكن كيف يمكن المراسل ان يحافظ على لغة مجرّدة من العاطفة اذا كان يعدّ تقريرا عن مجزرة كما حصل في حرب يوليو (تموز) 2006 في قانا في لبنان؟ ـ ليس هذا ما قصدته. أعرف ان الحروب تشهد اقتراف امور رهيبة ويبقى امرا صعبا وصف هول الكارثة بكلمات. انما ما اقصده هو الحرص على انتقاء بعض العبارات. هناك فرق بين عبارتي laquo;ethnic cleansingraquo; وlaquo;purifying racialraquo;.

العبارتان بشعتان وتصفان واقعا مقرفا، انما لا يمكن القبول باستخدام العبارة الاولى اي فعل laquo;cleanraquo; (نظّف) الذي نستخدمه للقول ننظّف المنزل من الاوساخ، لا يمكن تشبيه البشر بالاوساخ! مثل آخر، خلال الحرب بين فرنسا والجزائر كانت وسائل الاعلام الفرنسية تستخدم مفردات مختلفة للتعبير عن واقعة واحدة. كانت تقول laquo;سقط جندي فرنسيraquo; (un soldat francais a eacute;teacute; tueacute;) وlaquo;قُتل جزائريraquo; (un algerien a eacute;teacute; abattu)، وهذا الفعل يستخدم في الفرنسية للتعبير عن قتل كلب. هذا اسلوب من اساليب التلاعب بالرأي العام.

كذلك تستخدم حاليا عبارة laquo;friendly fireraquo; في الحرب على العراق، للقول ان جنودا بريطانيين مثلا سقطوا بنيران زملائهم الاميركيين. هذا امر غير مقبول. كيف يمكن للنيران ان تكون laquo;صديقةraquo; أو laquo;ودودة؟raquo; بمَ سيشعر ذوو الجنود الذين قتلوا بنيران كهذه لدى سماعهم هذه العبارة؟

gt; هل هذا ينطبق على استخدام عبارة laquo;عدوّraquo; للدلالة الى اسرائيل، لاسيما ان جدلا واسعا دار بين عدد من الصحافيين اللبنانيين الذين غطّوا حرب تموز؟ ـ ليس لديّ اي تحفّظ عن استخدام عبارة laquo;العدوّ الاسرائيليraquo; في الاعلام اللبناني لان اسرائيل هي عدوّ، فقد غزت لبنان مرارا وارتكبت مجازر. انما المشكلة تكمن في استخدام عبارات تصف افراد الجيش الاسرائيلي بانهم ادنى من مستوى البشر.

gt; هل ترى ان هناك فرقا بين صحافي محلي يغطّي نزاعا في بلاده وصحافي اجنبي؟ هل يمكن ان يقوم الاجنبي بتغطية افضل لان يكون عاطفيا كالاوّل؟

ـ طوال عملي في laquo;وكالة الصحافة الفرنسيةraquo; لم نستطع التخلّي عن الاستعانة بالمراسلين المحليين. حاليا لدينا، مثلا، ثلاثة مراسلين محلييّن يغطّون النزاع في زيمبابوي. لا اعتقد ان الانخراط العاطفي امر سيئ في العمل الصحافي لا بل انه قد ينعكس ايجابا على العمل. انما يجب عدم الانجرار وراء العاطفة، يجب الا نسمح لمشاعرنا بان تملي علينا الوقائع. في المقابل، يمكن ان نقدّم الوقائع في قالب عاطفي لنضفي مزيدا من الانسانية على عملنا. انما على الصحافي الا يسمح لمشاعره بأن تملي عليه الوقائع من دون ان تكون قد حصلت فعلا.

ميزة الصحافي المحترف تكمن في التدقيق في المعلومات والتشكيك بكل بشيء. ويجب دعم كل معلومة بمصدرين مستقلّين بعضهما عن بعض. فإذا وردت معلومات لصحافي ما من شركة معيّنة تؤكّد اكتشافها دواء للايدز، هل يسارع الى نشر المعلومات؟ طبعا لا، عليه تمحيص المعلومات والتوجه الى اختصاصيين للحصول على آراء متعدّدة ومختلفة. واذا تبيّن ان في الامر غشاً، عليه الامتناع عن نشر المعلومات. هذه هي المسؤولية في بث الاخبار التي تتصل بحياة مئات الاشخاص.

* نبذة عن روبرت هولواي gt; بدأ روبرت هولواي حياته المهنية قبل أكثر من ثلاثة عقود، وفي بداية مشواره غطى الثورة في البرتغال في العام 1974. وفي العام 1978 أتى الى لبنان حيث امضى ثلاث سنوات متتالية، ثم عاد في زيارات متقطّعة كان آخرها في العام 1983 قبل ان يعود اليوم في العام 2008. كما أمضى 6 سنوات في الشرق الاوسط. وبعدما عمل ثلاث سنوات مع laquo;منظمة التعاون والتنمية الاقتصاديةraquo; انضم الى وكالة الصحافة الفرنسية في العام 1988، عيّن مدير مكتب الوكالة في سيدني في العام 1990 ونائب رئيس تحرير الاخبار الخارجية في العام 1994. يتمتّع بخبرة واسعة في مجال التدريب الصحافي فقد درّب فريق laquo;فرانس برسraquo; في الشرق الاوسط وافريقيا وايضا في باريس.